تكشف مستويات العلاقة بين الشباب، بوصفهم كتلة مجتمعية مركزية، ودورهم في التصدي لمسؤوليات وتحديات وطنية عامة، عن غياب ملحوظ للأبعاد الجدلية الفاعلة في تلك العلاقة، على الرغم من أن سياقات التغيير التي شهدتها بعض البلاد العربية في السنوات الأخيرة، كانت تبشر بكسر قواعد الإقصاء والتهميش والوصاية، التي طبعت المنظور السلطوي والحزبي في تناوله قضايا الشباب، وكيفيات التعامل معهم في المجتمعات العربية.
كان التساؤل اللاحق، ممن تابع أسيقة التغيير تلك، ينصب حول الأسباب والعوامل التي دفعت أجيال الشباب للانتقال من واجهة التغيير وتعبيراته الحيوية في دول الانتفاضات والثورات العربية، إلى هوامش التأثير في المؤسسات والأطر التي نشأت لقيادة العمل الثوري أو إدارة المراحل الانتقالية.
يعزو بعضهم تراجع دور الشباب عن مشهد التحولات الكبرى الأشد صعوبةً وتعقيدًا، إلى عاملين أساسيين: (الأول) الصدمة التي واجهوها، بفعل الانتكاسات المتتالية في مسارات التغيير التي شقوا خطواتها الأولى، والتي أدت في تجارب متعددة (التجربة السورية بالأخص) إلى تداعيات كارثية، تفيض عن أسوأ التوقعات بالضريبة المحتملة التي يتوجب دفعها؛ للتخلص من الاستبداد ونيل الحرية. لم يُخفِ هذا العامل الانزياح الذي فرضته عسكرة الثورة عن قيم وتعبيرات الحراك السلمي، وما لذلك من دور في خروج قطاع كبير من الشباب تدريجيًا من الساحة، التي أصبحت الكلمة الأقوى فيها لصوت الرصاص، وفي ظل فوضى السلاح والالتباس بين دوره في تحقيق أهداف الثورة وتوظيفاته السياسية الأخرى، انكفأ دور الشباب طرديًا مع هبوط ترمومتر الحراك السلمي الذي امتلكوا أدواته، وبرعوا في تطوير أشكاله ومنابره.
(الثاني) سيطرة قوى المعارضة التقليدية على ناصية المؤسسات السياسية والتمثيلية، وانتهاجها الأساليب ذاتها في الاحتكار واقصاء القوى الشبابية الصاعدة، وتصلُب نزعتها السلطوية البديلة، التي جعلتها تمانع (عن دراية) أي محاولة لتجديد دماء تلك المؤسسات، بما يستجيب لزمن الثورة وتحولاته البنيوية. بيدَ أن هذا العامل الكابح لمشاركة الشباب في الحياة السياسية، ما كان له أن يفعلَ فعلهُ، لو كان لدى الشباب أنفسهم نزعة المبادرة والتنظيم لإنشاء كيانات سياسية تردم الهوة بين منطق المعارضة ومنطق الثورة. لكن هل يمكن الركون لما يبرر به الشباب تقصيرهم عن القيام بهذه المهمة التاريخية، وهو ضعف خبراتهم السياسية والتنظيمية للقيام بذلك كما يزعمون؟ لا شك في أن أثر الاستبداد الطويل في منع الشباب من اكتساب تلك الخبرات مما لا يجوز تجاهله، لكن ذلك (كما أعتقد) يجب أن يكون محفزًا؛ لإطلاق ديناميات النشاط السياسي والمدني كضرورة لا يستقيم دونها إدارة الصراع مع الاستبداد ومتطلبات بناء الدولة. بمعنى أوضح لم تظهر محاولات شبابية جدية للعمل على مأسسة العمل الجماعي، محمولًا على وعي جديد يقطع مع الشخصنة والارتجال والعفوية، وهي من الأمراض المزمنة التي ورثها الشباب أيضًا، وحالت دون تمكنهم من بناء جماعات سياسية منظمة، قادرة على خلق البدائل أو مساهمة في ولادتها.
في خضم البحث حول منعكسات ذينك العاملين على رؤية الشباب للواقع والمستقبل، لم يغادر لسان حال الشباب مربع النقمة والتذمر من انسداد الأفق أمام تطلعاتهم وآمالهم، ولا سيما أن مسلسل استنزاف طاقات الشباب كان الحقيقة المريرة، التي ضاعفت من مشاعر اليأس والعجز لديهم. قلّما أدت النقاشات والحوارات حول أوجه الأزمة العميقة التي يعيشها الشباب، إلى بلورة توافقات فكرية وسياسية ومجتمعية ترقى إلى برنامج عمل، يسهم في تحقيق انخراط الشباب في مجالات الشأن العام. في المقابل، كان لتركيز منظمات المجتمع المدني (NGOES) على استقطاب الكفاءات الشبابية ودورها في تكريس ثقافة الحياد والعزوف عن الممارسة السياسية، أثر بارز في تشتت الجهد وتضارب المبادرات والتغريب عن الواقع، فضلًا عن دورها في تصريف طاقات الشباب العاملين فيها وفق برامج الأطراف الممولة لها. في ندوة شبابية عقدت مؤخرًا في مدينة غازي عينتاب التركية وضمت أكثر من 70 شابًا وشابة من سورية، وناشطون من دول عربية، رأى أحد الشبان المشاركين “أنه من غير المنصف تحميل تلك المنظمات وحدها الخلل في علاقة الشباب بقضايا الشأن العام، طالما غاب المشروع الوطني القادر على استقطاب الشباب، والعمل معهم وليس عليهم”. يحمل هذا الرأي وجاهة في وضع اليد على لب المشكلة، وهو الفشل في تشبيك الجهد والطاقات ضمن مظلة وطنية، توفر للشباب آليات المشاركة الفاعلة، دون وصاية أو استخدامات حزبية أو أيديولوجية.
الأفكار والاقتراحات التي دارت في تلك الورشة، عبرت عن وعي شبابي ناضج في قراءته للواقع، وتوّاق للانتقال من طور التشخيص إلى طور المعالجات، وهنا مكمن التحدي الذي يواجه الشباب بصورة أساسية، والذي يفترض بدايةً إعادة النظر إلى فكرة صراع الأجيال التي يبدو أنها أوقعت الشباب في تبني ثقافة المطلق، وليس السعي؛ لإعادة تكوين مفهوم نسبي عن التكامل الخلّاق بين الأجيال المكافحة، في سبيل التحرر وبناء أوطاننا على قيم الحرية والعدالة.
ثمة مقاربات جديدة، من شأنها خلق شروط التجاوز عن الواقع السائد، لكن لا مناص من استعادة ثقة الشباب بقدرتهم على صياغة الأولويات الراهنة والمستقبلة، في زمن يُراد فيه تجويف مشروعات التغيير في بلادنا واستبدالها بخيارات كارثية، لكن تجارب التاريخ تسوغ المراهنة على قوة العامل الذاتي في استنهاض مجتمعات كانت معرضة لمخاطر وجودية كبرى.
أخيرًا كل حركة فكرية وسياسية ومجتمعية، لا يكون الشباب عصبها وقوتها المحركة، ستكون محكومة بالفشل والعجز، مهما كانت دعواها وشعاراتها براقة، وكل مجتمع لا يشكل قوة جاذبة للشباب، ولا يوفر ممكنات مشاركتهم الفاعلة، سيبقى أسير القوى التقليدية المسيطرة عليه، والأهم يتوقف على إيمان الشباب بقدرتهم على إحداث الفارق، بين ما هو قائم، وما ينبغي أن نكون عليه.