قضايا المجتمع

سورية من: الشعب يريد… إلى: ما يُراد له

(1)

لقد حاولنا -فيما سبق- الانتقال بالحديث عن المرحلة الانتقالية في سورية، من البحث التنظيري لمرحلة انتقالية، تُستدرج إليها نخب سورية حقوقية ومدنية؛ للتغطية على صفقات دولية، أقل ما يقال فيها أنها مجهولة، إلى البحث الجدي الموضوعي في الطريق إلى مرحلة انتقالية، تؤدي إلى غائية يريدها الشعب في سورية، أيًا كانت الصفقات التي يدور التفاوض حولها وراء الأبواب المغلقة، بين قوى دولية وإقليمية، ليس بينها طرف سوري واحد، أيًا كانت صفته.

قد يرى بعضهم في الحديث عن الشعب، وإرادة الشعب، حديثًا طوباويًا، فالقضية السورية تم تدويلها، كما يقولون، والقرار بشأنها لم ولن يقتصر على سورية، وطنًا، وشعبًا، وإنما يتعلق بمخططات بالغة الحساسية تشمل الوطن العربي، أو ما يسمونه، هم، الشرق الأوسط الذي يريدونه كبيرًا تارة، أو يريدونه جديدًا تارة أخرى، لذلك؛ فإن المرحلة الانتقالية في سورية التي يسعى إليها (كيري – لافروف)، ومن سيخلفهما، هي النقيض من المرحلة الانتقالية ومن المرحلة التالية التي يسعى الشعب في سورية للانتقال إليها، وهذا يستدعي الانتهاء من مراسم دفن “الربيع العربي” التي طالت أكثر مما توقع أصحاب الشأن في قوى الهيمنة الدولية، بل ربما لا يجدون ما يدفنونه.

كان لا بد من هذه المقدمة؛ لنبين -بوضوح- أن المرحلة الانتقالية التي نتحدث عنها، والتي سنتدخل في أدق تفاصيلها من خلال الحلقات المقبلة من هذا الحديث، هي برسم الشعب في سورية وحده، وحصريًا، وهنا ينهض السؤال الذي توقفنا عنده في الحلقة السابقة من هذا الحديث: كيف لهذا الشعب أن يستعيد دوره المركزي في رسم ملامح المرحلة الانتقالية، ومن ثم المرحلة التي يريد الانتقال إليها؟ كيف؟ ومتى؟ وما الوسائل والأدوات؟ وكيف ينتزع قراره في هذا الواقع المضطرب بالغ الحساسية، والذي تتزاحم فيه جميع القوى المؤثرة والطامعة في هذا العالم؟

(2)

لا بد -بداية- من الاعتراف بأن الشعب السوري، في الأوضاع المأسوية الراهنة يفتقد الإطار الوطني الجامع الذي يمكنّه من انتزاع قرار تقرير مصيره من أنياب قوى الهيمنة، دوليًا وإقليميًا من جهة، ومن أنياب عصبويات التوحش والتسلط الداخلي التي تمزق النسيج الوطني، بشتى الأساليب، والتي تصب مشروعاتها ارتباطًا، أو تبعية، أو غباء، لصالح أطراف قوى الهيمنة دوليًا وإقليميًا من جهة أخرى، ثم أن حالة الاستلاب والحصار التي يعاني منها الشعب السوري، ليست وليدة السنوات الخمس المنصرمة، وإنما نتاج العقود الخمسة من النظام الشمولي الذي عرّى المجتمع من سائر المؤسسات السياسية وغير السياسية، ومن جميع الهيئات الاجتماعية والمدنية والنقابية ومن مؤسسات التعبير عن الرأي، وقد كشفت أحداث السنوات الخمس المنصرمة عن هذا الواقع الأليم، فهي سنوات كاشفة، وليست سنوات منشئة، بحيث تمكنت قوى الهيمنة الدولية والإقليمية وقوى التسلط العصبوية المحلية من اختراق النسيج الوطني والمجتمعي؛ لاستقطاب عصبويات تستلب إرادة المواطن في سورية، بحيث يتحول السؤال لكل مواطن في سورية من السؤال: من أنت؟ إلى السؤال: مع من أنت؟ وكأنه نكرة لا قيمة له، وهذا يعني -من حيث النتيجة- أن المواطن لم يعد يستمد قيمته من شخصه وعلمه ووعيه وثقافته، ولا من انتمائه الوطني، وإنما من تابعيته لهذه الجهة أو تلك، داخليًا أو خارجيًا.

ونحن لا نقول ذلك في إطار توصيف الحالة الراهنة، وإنما لتحديد النقطة التي تنطلق منها المرحلة الانتقالية في سورية، فهي تبدأ من الإنسان الفرد، إلى المجتمع، إلى الوطن، إلى الأمة، إلى الإنسانية جمعاء، بينما ما تسرب من مخططات القوى المتحكمة في مصير هذا العالم، تسعى في سورية إلى مرحلة انتقالية معاكسة لإرادة الشعب السوري، تبدأ من الجزء وتنتهي إلى تجزئة الأجزاء!

(3)

هكذا… نبدأ من رسم معالم الطريق إلى المرحلة الانتقالية، ومن ثم تحديد نواميس المرحلة الانتقالية وحدودها زمنيًا، ثم تحديد المهام الدستورية والتشريعية والقانونية التي يجب إنجازها في المرحلة الانتقالية؛ تأسيسًا لمرحلة الاستقرار الدستوري التي يجب الانتقال إليها.

إذن، وبناء عليه، لا بد من التصدي لمعالجة القضايا الراهنة، وتحديد مسار الطريق إلى المرحلة الانتقالية والأساليب الواجب اتباعها والأدوات اللازمة، ومن ثم معالجة مسائل دقيقة ومهمة، تتعلق بتحديات المرحلة الانتقالية، وهي لا شك كثيرة ومعقدة أيًا كانت الطريق، أو الطرق المؤدية إليها، ثم بناء الأسس القانونية والدستورية للمرحلة ما بعد الانتقالية.

نعم، الطريق لتحقيق ذلك سيكون صعبًا، وهناك ألغام لا حصر لها على هذا الطريق، لكنه قدر هذا الشعب، لأنه الطريق الوحيد المؤدي إلى الحرية، نقول ذلك، مع الإقرار بتعقيدات المشكلات وترابطها وفرادتها في المشهد السوري، بحيث لا يمكن معالجة مشكلة في هذا الواقع المعقد دون البحث في جذرها المتشعب في قضايا لا حصر لها، وفي امتدادها إلى مشكلات أخرى، لا حدود فاصلة بينها، وبحيث لا يمكن الاكتفاء بالقياس على تجارب عالمية سابقة…

(4)

إن ما حدث، وما يحدث في سورية، يكاد أن يكون حالة فريدة لم يشهد التاريخ البشري مثيلًا لها، من حيث الأسباب والنتائج والممارسات وحجم التدخلات والصراعات الدولية والإقليمية في سورية وعليها، وبالتالي، فإن الحديث الجاد عن مرحلة انتقالية في سورية يتوقف على عوامل عديدة، أهمها مواجهة المخططات التخريبية لقوى دولية وإقليمية، اخترقت النسيج الاجتماعي والوطني في سورية، تسعى للتحاصص في سورية وطنًا وشعبًا، ولهذا فإن أي حديث عن مرحلة انتقالية قبل استعادة القرار الوطني والسيادي؛ ليكون بيد الشعب، هو مجرد لغو لا يقدم ولا يؤخر، فالقوى الدولية والإقليمية المتصارعة على سورية، وفيها لا تسعى إلى مرحلة انتقالية باتجاه دولة مؤسسات ديموقراطية، بل لن تسمح بذلك ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، وإنما تسعى لتنفيذ أجندات ومخططات شديدة الشبه بمخططات “سايكس – بيكو”، و”يالطا”، و”سان ريمو”، و”كامب ديفيد”؛ لهذا فإن الأمر يتوقف على أن يستعيد الشعب السوري قراره وإرادته وسيادته على وطنه، ومن ثم يقرر –هو- طبيعة هذا الانتقال واتجاهه وغائيته، فنحن سننطلق من فرضية أن الشعب السوري هو الذي سيتمكن أخيرًا من أن يشق طريقه إلى الحرية، على الرغم من كل تلك الألغام والمخططات التي تعبث بالواقع السوري هذه الأيام، وهذا الشعب العظيم سيعرف كيف يرتق نسيجه الاجتماعي والوطني، وكيف يطهّر وطنه من النفوذ الأجنبي ومن أجنداته التخريبية والانتقال من مرحلة: “مع من؟”، إلى مرحلة: “من نحن؟”، من مرحلة: ماذا يخططون ويريدون؟ ” إلى مرحلة: ماذا نخطط وماذا نريد؟ “، وبالتالي؛ فإن هذا الشعب هو الذي سيقرر، ثم هو الذي سينتج مؤسساته التمثيلية؛ لوضع الأسس والمنطلقات والغايات لمرحلة انتقالية، ولما بعدها استراتيجيًا.

( 5 )

أعرف أن كثيرين سيعدون ذلك حلمًا بعيد المنال، بل قد يرونه شكلًا من أشكال الأوهام، خاصة أن الواقع الموضوعي في سورية والوطن العربي يناقض ذلك الحلم، أو “الوهم”، فالمواطنون في سورية، وفي الوطن العربي آخر من يقرر، ويؤثر في القرار هذه الأيام، لقد وصل الخرق الأجنبي إلى النخاع الشوكي العربي، أعرف ذلك، وأقر بتداعياته الخطرة، لكنني -في الوقت ذاته- أرفض الاستسلام له، هو واقع لا ينكره عاقل، لكن هذا الواقع ذاته ينادي: هل من يقاوم؟، وهناك لا شك من يلبي النداء بطريقة ما، وربما يخرج المارد العربي من القمقم، من يدري، ذلك ان انكشاف طبيعة الصراع وحقيقة أهداف المتصارعين على الساحة السورية والعربية عمومًا، قد يؤدي إلى عملية فرز جديدة والرهان مشروع على نواميس الشعوب ومقدرتها، نريد أن نؤكد هنا فحسب، أن الصراع على أشده ومعركة الانتقال في بداياتها، وعلى الرغم من تعدد الصراعات وتضاد المتصارعين إلا أن هذا الصراع المحتدم في الوطن العربي، سيؤدي من حيث النتيجة إلى مرحلة انتقالية، لكن السؤال المعلق على نتيجة الصراع هو: إلى أين سيكون هذا الانتقال؟ والجواب معلق بدوره على من سينتصر في هذا الصراع، حيث سيكون هو من يقرر هذا الانتقال، وإلى أين؟ وهذا يعني أنني أضع هذا الحديث، وما يليه، في إطاره الصحيح، كمساهمة متواضعة في تسليط الضوء على مسائل مهمة من الناحية الدستورية والقانونية، قد تساهم مع آراء أخرى، لا بد من تفاعلها، وإثارة حوارات مفتوحة حولها؛ ليتم التأسيس عليها عندما تحين الساعة الوطنية التي يتطلع الشعب السوري إليها، ويسعى للانطلاق من لحظتها، أقول ذلك بداية، لأنني أحسست بالعار عندما بدأت وسائل الأعلام تتناقل أن قوى دولية وإقليمية قد وضعت دساتير لسورية، وأنها في طريقها لفرض أسس لمراحل انتقالية أو ترقيعية، لذلك؛ لا بد من التأكيد بداية أن الشعب في سورية عبر مؤسسات تمثيلية، هو وحده المعني بها، وهو وحده يعرف كيف يبنيها، وهو وحده يوافق، أو يرفض ما يصدر عنها؛ بناء على ذلك، وضمن حدوده، يأتي هذا الحديث، وغاية الرجاء أن يصلح للاستئناس به لا أكثر من ذلك ولا أقل، فأنا أرى أنه لا بد من التأسيس -ابتداء- لمرحلة دستورية معاصرة، وقوانين عصرية، وقضاء عادل، وأخشى أن يكون ما هو قائم من ذلك كله قد تصدّع، إلى الدرجة التي جعلته غير قابل للإصلاح والترميم، وأنه لا بد من التأسيس على أسس جديدة كليًا، فمن أين نبدأ؟

 

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق