تُمثل الثورات، بوصفها أحداثًا تاريخية كبرى، إشكالية معرفية مُركّبة ومُتراكبة في آن معًا، ذلك أن معظم الناس يقعون في شراك فهمها المُلتبس، ويصعب عليهم بناء موقف واضح ومتكامل بخصوصها، ولا سيما في ضوء صعوبة تَمثّل الذات لأحداثها التي تبدو متناقضة ومتبعثرة، إذ إن فجوات تباعدها المستمر يجعل منها متتاليات من الوقائع المباغتة والمتشظية التي تستعصي على الإخضاع المباشر لمركزية التحكم الموضوعي بها، ولآليات ميتافيزيقا الإحضار والتفسير والتعيين المستقر والمطمئن في وحدة مركزية متعالية وثابتة ونهائية.
ولهذا يسقط كثيرون في أحكام وتعميمات مجتزأة تُبنى -في الأغلب- على محور أو محاور نمطية ضيّقة وسائدة، أو تُؤسس على رغبوية محسومة الدلالات مسبقًا، وهو ما يبدو انعكاسًا لمطابقات ميتافيزيقا الحضور، ولا سيما عندما يرتبط تشويش القدرة على بناء رؤية متكاملة للحدث الثوري، بالاتكاء التقليدي الميتافيزيقي على منطق الثنائيات التقابلية القيمية، كالخير والشر، والأفضل والأسوأ، والأجمل والأقبح، ذلك أن أول ما يتبادر إلى ذهن الذات التقليدية المُفكرة بمعنى الثورة يكمن في النظر المبسط إليها بوصفها بديلًا أوتوماتيكيًا أو قطيعة إبستمولوجية ووجودية مع المرحلة السابقة التي ثارتْ عليها، وأرادت تغييرها ومجاوزتها نحو عالم جديد مُغاير، وأكثر بهاءً وجمالًا وعدالةً وحرية، وهذه القضية ليست خاطئة على نحو كلي، لكن لبناء كينونة الوجود الأصيل للثورة لا بد من تعديل محوري في تراتبية الفهم الثنائي؛ بغية إيضاح مكمن البديل الثوري أو كيفيات انبساط أساليب وجود القطيعة الثورية.
في منحى الالتباس نفسه، وبمقاربة مباشرة للثورة السورية، أتتْ ثنائية (السلطة – المعارضة) بوصفها ثنائية مُقارنة لتزيد من حالة الإيهام المشوش لمفهوم الثورة، وهو الأمر الذي زاد من مسألة كيل الاتهامات والانتقادات السلبية للثورة التي لم تُمنح كينونتها ذلك الحضور الصريح، لكونها احتفظت، بفعل طبيعتها الوجودية، بأنماط مُموهة من التحجب أو الغياب الذي يعني أن انفتاح كينونة الثورة في فجوة الوجود السوري، يتجاوز المنطق الثنائي القيمي والتراتبي، من ناحية أولى، وينطوي، من ناحية ثانية، على قدر مُتراكب من التباس الوجود والموجود، والحاضر والغائب، وذلك، بعد التمعّن العميق في قضية تأصيل مفهوم صيرورة الحدث الثوري نفسه، وهي المسألة المرتبطة عموديًا بكون أي حدث جلل، راهن وآني وعابر كما يبدو، لا يخرج إلى العلن والظهور والتجلي إلا بوصفه انفتاحًا كليًا؛ أي بما هو حدث يُبسّط في عيانيته اليومية المعيشة ذلك الانكشاف الكياني الكلي للاختلاف، ولهذا يبدو أن فعل حصر مفهوم الثورة في ثنائية (السلطة – المعارضة) هو فعلٌ يتأسس على رؤىً قاصرة واختزالية وتلفيقية؛ أي بوصفها رؤىً جوهرانية مُسبقة وساكنة ومُغلقة، تتجاهل حركية الوجود الثوري، بما هي حركية لا تقوم على تضاد المعارضة مع السلطة -مع الأخذ بعين الاعتبار وجود نسبي لمثل هذا التضاد- بقدر ما تقوم على تضاد الجديد مع القديم، والأصيل مع الزائف (بعيدًا عن فهم الأصالة والزيف هنا بوصفهما حُكمي قيمة أخلاقيّين، إنما بوصفهما حُكمين مُتعلقين بمدى ارتباط فجوة الحدث بكينونته الكلّية)، وهي قضايا تنزع عن مفهوم الثورة صفة البديل (المُعارض) المباشر لمن ثارت عليه، ذلك أن الموضوع متعلق بمنحىً آخر أيضًا، بتلك الصلة الملتبسة بين مفهوم الدولة ومفهوم السلطة التي سطت على تلك الدولة، وتغولت عليها، وأدتْ إلى تعويم نمط من المعارضات المخصية في فضاء سياسي مخصي، وفي بنية دولة مغيبة، وهو الأمر الذي يحرر فكرة الثورة من الارتهان الضيق للضدية المباشرة مع السلطة، ويفتتح دلالاتها نحو الضدية مع جميع البنى البالية التي كانت سائدة، ومنقطعة عن أصالة الوجود.
على هذا النحو، يغدو تفسير الشرعية الثورية الجديدة مترابطًا بنيويًا مع الخروج من التضاد الثنائي التقليدي مع الشرعية القديمة، ذلك أن الاختلاف الذي تفتتحه الثورة يتأسس على بنية جدلية محايثة ذات تشابكات متراكبة من الأحداث التي يمكن وصفها بأنها مجموعة من الحركيات المهيمنة المتوالدة -باستمرار- عبر مراحل الثورة، وهي مُهيمنات تؤدي انبثاقاتها الحيوية إلى مد حركية الصيرورة، بوقود التحول والتبدل والتغيير المُتشظي والمُتراكب، وهذه القضايا تعني -فيما تعنيه- أن القطيعة مع الأوضاع السابقة لا تتعين تعينًا حديًا فاصلًا ومنجزًا، فلا يكون -مثلًا- الوجود في فجوة الثورة نقيضًا للعالم السابق الذي تحول بضغطة زر إلى عدم؛ وإنما يحمل هذا الانفتاح الثوري الجديد العدم القديم، مثلما يُؤسس لعدم جديد (وهنا لا أفصل فلسفيًا أو أُقيّم ثنائيةً بين الوجود والعدم)، تنبسط عبر تفاعلهما الجدلي حركية الصيرورة طاويةً في فعالياتها قسوة الثورة وكوارثها المباشرة على الناس، بوصفها كوارث ذات ديناميات غير منفصلة عن تأثيرات العدم القديم الزائف الذي ما يزال يحاول الدفاع عن شرعية وجوده، والوجود الجديد الذي ما يزال وهو يحاول أنْ يُؤكد أحقيته الشرعية المغايرة يبسط جوانب من عدم أصيل قادم جميل ومقلق وهش ربما، وغير ناج من تضليل التاريخ ومُكْره ولعب علاماته الحر والمختلف.
لعل -أيضًا- حضور الحرب بوصفها إحدى إفرازات الثورة، وانطوائها في أحد مستويات القراءة على شكل ما (أراه محدودًا في الحالة السورية) من الاحتراب الأهلي، وتلونها بعد مرحلة العسكرة بطابع الإسلام السياسي، يزيد من إرهاق الفهم، ويُوقعه بعمق أكبر في حبائل التشويش والزيغان والتباعد الدلالي، لكن الرؤية التكاملية التي تحتفي بديناميات المحايثة التخارجية الجدلية، من جانب أول، وتعي، من جانب ثان، معنى صيرورة المهيمنات المرحلية المتوالدة من بعضها، يقود إلى مجاوزة جديدة لإحدى الثنائيات التقابلية الميتافيزيقية التي نظرت إلى الثورة المسلحة بوصفها نقيضًا للثورة السلمية، أو ثورة مضادة لها؛ أي بوصفها انقلابًا على إرادة الحرية لصالح إرادة الصراع على السلطة، في حين أنه لا يمكن بحال من الأحوال فصلُ مرحلة الثورة السلمية في أي فعل تحقيبي عن دوافع الصراع على السلطة، ولا يمكن أيضًا فصلُ مرحلة الثورة المسلحة عن فكرة إرادة الحرية، ولا سيما بعد التحاق أعداد كبيرة من ناشطي الثورة السلمية بالعمل المسلح أو الإغاثي أو الإعلامي، فضلًا عن احتضان البيئات الثائرة وتشابكها الأسروي والعائلي والعشائري مع حملة السلاح، ذلك أن فهم عُمق العلاقة بين الوجود السابق، وما كان ينطوي عليه من احتقان طائفي، وتقيح اجتماعي، واحتباس سياسي مموه تحت السطوح الزائفة، فضلًا عن فائض العنف الذي وجه إلى الثورة السلمية، والوجود الجديد المنفتح في فجوة التشظي، بما هو عملية تراكمية متراكبة؛ لوأد زمانية الماضي الذي يقاوم الأفول، سيقود ذلك كله إلى النجاة من فخ المحاكمة اليقينية، القائمة على نوع من الطهرانية المريحة للضمير في فهم الثورة.
صحيحٌ أننا، بوصفنا أفرادًا أو مثقفين، نرفض أخلاقيًا وفكريًا حمل السلاح، وصحيحٌ أننا ندين فكرة القتل بأقصى ما نملك من أدوات معرفية وحياتية، وننتظر ذلك اليوم الذي تستغني فيه البشرية عن خطيئة الحرب الأصلية لحل مشكلاتها، لكنْ علينا أن نُميّز في هذا الموضع بين الذاتي الذي تنبثق منه آراؤنا ومواقفنا ورغباتنا في أحيان كثيرة، والموضوعي المحيط بعصر هذا الذاتي، ولهذا لابد للمتفحص الأمين من أن يعترف بأن أي قراءة موضوعية لمآلات الثورة السورية تُؤكد عامل الضرورة في حمل السلاح إنْ بفعل فائض العنف الذي مارسته السلطة على بشر عاديين لا على آلهة، أو بفعل انفتاح الفضاء الجيوسياسي على تدخلات لإرادات قوى إقليمية ودولية كبرى، وهذا لا ينفي الجذر الأصلي الموجب للثورة، والمسبب لانبثاقها الأصيل، ودور الذوات والجماعات الثورية النسبي في تخليق الفعل الأصلي الذي يُولّد ردود الفعْل الداخلية والخارجية الملتحقة به.
إن طبيعة ثورات الربيع العربي، بوصفها ثورات ما بعد حداثية بامتياز، قد زاد على صعوبات فهم هذه الأحداث الكبرى والإحاطة بدلالاتها، ولا سيما حينما يلجأ كثير من الأشخاص إلى القياس -الذي لا ينجو -في الأغلب- من سجن الأيديولوجيات المسبقة- على ثورات قديمة عُرفت بوجود رأس هرمي محرك لها، بعكس هذه الثورات المباغتة وغير المركزية، وعندما يعجزون عن تفسير الأحداث الجديدة والشاذة والغريبة أو حتى الغرائبية -إذا استعرنا المصطلح من حقل النقد الأدبي- يلجؤون إلى محمية (نظرية المؤامرة) المريحة للأعصاب والضمير، دونما أنْ يواجهوا أنفسهم -بعد ذلك- بأبسط وأقرب سؤال منهجي: هل كانت الأنظمة العربية أنظمة وطنية في يوم من الأيام.
المؤامرة موجودةٌ دائمًا، وعند أي تصدع أو فراغ يصيب أي فضاء جيوسياسي، كانت تغطيه وظيفيًا سياساتٌ ما منْ قبْل، تبدأ المؤامرات بوصفها سعي كل دولة خلف مصالحها، وهذا لا ينفي وجود الأسباب الموضوعية والدوافع الوجودية لانبثاق الثورة التي تأتلف فيها، وتختلف، فاعلية الأفراد، ومكر التاريخ بوصفه (حتمية)، والحتمية في اصطلاحي هنا لا تنطوي على مصادرة مسبقة وثابتة لما سيأتي من أحداث مستقبلًا، إنما يعني أن القول بحتمية حدوث التغيير بعد أول مظاهرة عربية أو سورية انطلقت، لا يتناقض مع القول باستحالة تملّكنا وتحكّمنا الحتمي بشكل التغيير، ذلك أن الصراعات المحلية والإقليمية والدولية التي أنتجتها واستدعتها تداعيات الثورات لم تعدْ صراعات على التغيير -الذي قلت إنه بات أمرًا واقعًا- بقدر ما هي صراعات على شكل التغيير وحجمه وطبيعته.
ويبدو أن عدم فهْم باحثين ومفكرين كثيرين لهذه النقطة، أوقعهم في خطأ (الحسم القطعي) بإخفاق ثورات الربيع العربي، لكن القضية -برأيي- ليست تفاؤلًا أو تشاؤمًا، والواقع يقول بوجود عقبات وإحباطات وإشكاليات كبرى تواجه هذه الثورات، لكن ما ذهبْتُ إليه بخصوص أن القطيعة لا تتعين تعينًا حديًا فاصلًا ومنجزًا، يعني أن الانزياحات التاريخية الكبرى تنتقل على دفعات، من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، وتتحرك على طريقة أحجار الدومينو، لكنْ أحيانًا بما يشبه طريقة الإعادة التلفزيونية البطيئة، وهي الآلية المعقدة والمتراكبة التي تصعب الإحاطة بها أو تعيينها يقينيًا، ولا سيما وهي تلتوي وتزيغ وتلتبس بخدعة السكون، أو بتمويه حركية الأحداث بمظاهر الانغلاق.
المسألة إذن ليست هزيمةً حاسمة أو انتصارًا حاسمًا؛ إنما هي قضية انفتاح فجوة وجودية تخارجية، لم يعد بالإمكان إغلاقها والعودة إلى الاستعصاء التاريخي القديم، ومن المؤكد أن هذه الفجوة تجذب شهية إرادات القوى والصراعات المختلفة، لنشهد مراحل متشابكة من الهشاشة والغرابة والسوداوية، ولنتذوق طعم التحول والتغيير وانبثاق الحرية على أجنحة الدم والمرارة والفقد وانتهاك الإنسانية، ولهذا تكفّ النظرة الحكيمة عن تفسير الثورة بأنها هي التغيير المبتغى المقابل للأوضاع التي سبقتْها: الثورة تفتح الباب لوحش التغيير المخيف فحسب، أو تحطم ذلك الباب في معظم الأحوال، والعاجزون يمضون وقتهم في ذم الحظ العاثر والعصر القذر والحياة اللعينة، أما الرؤيويون القادرون على اللعب الحر مع التاريخ، فيمضون في المشاركة بصنعه، وفي التفاوض -قدر المستطاع- مع مكْره الجميل القاسي، وفي صياغة فجوات المستقبل الحر المنشود والمختلف.