سيشهد الثلاثون من أيلول/ سبتمبر 2016، الذكرى السنوية الأول للعدوان الروسي على سورية، والذي شكّل انعراجًا خطرًا في مسار الثورة السورية، بسبب الجرائم التي ارتكبها، والتي ضاعفت من أعداد القتلى الأبرياء التي لم تنقطع منذ خمسة أعوام كاملة، حيث أدركت روسيا أن حليفها أوشك على الانهيار، على الرغم من الدعم العسكري والسياسي الكبير الذي قدمته له، وبمساندة المليشيات الطائفية التي فشلت -هي الأخرى- في إيقاف مسلسل الهزائم المتتالية التي مني بها النظام.
هذا الإخفاق السوري دفع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، للتدخل بقوة من خلال نشر قوات عسكرية، وإقامة قواعد روسية في سورية؛ بذريعة مكافحة الإرهاب، وذلك من خلال غرفة عمليات مشتركة تضم روسيا، وإيران، والعراق، وسورية، موجهًا عدوانه لفصائل الثورة السورية والمدنيين السوريين، لكن كان واضحًا أن الدوافع العسكرية التي أعلنتها روسيا، لا تتلاءم مع المنظومات الدفاعية، صواريخ أرض – جو (SA15) و(SA22) التي نشرتها، وخاصة في قاعدة حميميم، إضافة إلى الغواصة النووية ومجموعة سفن حربية في طرطوس، و48 مقاتلة روسية من طراز (Su-24) و(Su-25) و(Su-30)، وعدد من المروحيات القتالية، ما دفع كثير من المراقبين للحديث عن دوافع روسية أكثر بعدًا من التي أعلنتها، خاصة فيما يخص الحلم الروسي القديم في الوصول إلى المياه الدافئة، والتي شكل الوضع السوري الراهن فرصة قد لا تتكرر أمام روسيا في تحقيق هذا الحلم، خاصة في ظل رغبة الرئيس الروسي لعب دور أكبر على الساحة الدولية، واستعادة الهيبة الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، مستغلًا -في الوقت ذاته- التشرذم والتشوه الذي يشهده الواقع العربي، والذي ليس من إرادته إيقاف العدوان العسكري الروسي، ورفض الإدارة الأميركية الحالية الانخراط مباشرة في سورية، كل هذه العوامل أعطت انطباعًا بأن الطريق إلى المياه الدافئة، بات ممهدًا أكثر من أي وقت مضى.
يرتبط حلم روسيا في الوصول المياه الدافئة بزمن الحكم القيصري، بسبب معاناتها من البحار المغلقة والمتجمدة، والذي طالما شكل الشرق الأوسط أحد أهم نقاط ارتكاز السياسية الروسية في سبيل تحقيق هذا الهدف، وخاصة أيام الاتحاد السوفياتي، الذي حاول توطيد علاقاته مع المنطقة منذ أيام الرئيس المصري جمال عبد الناصر، في سبيل تحقيق هدفه في منفذ بحري على شواطئ البحر المتوسط، لكنه فشل في ذلك بعد قرار الرئيس المصري أنور السادات بإنهاء وجود الخبراء الروس في الجيش المصري، لذلك؛ بدأ الروس في التفكير في إقامة قواعد عسكرية، وهذا ما قاموا به في سورية بالفعل، لضمان ديمومة البقاء الروسي في المنطقة، وتجنب المصير الذي لاقوه في مصر، فالعلاقة السورية – الروسية التي تعود إلى زمن حافظ الأسد وحقبة الاتحاد السوفياتي، شكّلت أحد أهم أركان توطيد حكم الأسد في سورية، وليستمر الوضع على ما هو عليه في مرحلة الأسد الابن من خلال دعم موسكو اللامحدود له، وذلك لما تشكله سورية من أهمية استراتيجية للسياسة الروسية، كونها آخر موطئ قدم لها على سواحل المتوسط، بعد انهيار حلف وارسو الذي شكل لها -سابقًا- منفذا على البحر المتوسط من خلال دول البلقان، لذلك كان قرار العدوان الروسي في سورية ملحًا بالنسبة للمصالح الروسية، خاصة أن النظام السوري كان على وشك السقوط، بعد أن تقلصت سيطرته إلى حدود 18 بالمئة فقط من الأرض السورية، واستنزفت قواته العسكرية بشكل رهيب، وهو ما رأت فيه موسكو فرصة لا تعوض، في تلبية دعوات النظام السوري المتكررة لها، بإقامة قواعد عسكرية على ساحل المتوسط، وتحويل سورية بشكل كامل للوصاية العسكرية والسياسية الروسية.
لم تقف روسيا عند نقطة الوصول إلى المياه الدافئة، بل تمددت على كامل الشواطئ السورية على المتوسط، حيث عمدت إلى إقامة قواعد في طرطوس واللاذقية، إضافة إلى قاعدة عسكرية في حمص، ولم تجد موسكو أي غضاضة في معاملة سورية كما تعاملت مع الشيشان، من خلال استخدام الجيش والطيران الروسي في تدمير المدن الشيشانية وتسويتها بالأرض، على مرأى ومسمع القيادة الشيشانية الموالية لموسكو، وهو ما يقوم به النظام السوري تمامًا، حيث أعطى الشرعية للوجود الروسي؛ بهدف الحفاظ على نظامه، من دون أن يكون له الحق في الرفض أو المناقشة.
من جانب آخر يرى مراقبون بأن التدخل الروسي في سورية يأتي في سياق ملء الفراغ الاستراتيجي الذي تركته الولايات المتحدة في المنطقة، وخاصة في عهد الإدارة الأميركية الحالية، حيث يتم الحديث عن أن التدخل العسكري الروسي في سورية يأتي ضمن خطة روسية تهدف إلى مد شبكاتها الصاروخية في المنطقة الممتدة بين طهران وبيروت، مرورًا بدمشق وبغداد، عبر شبكة دفاع جوي متطورة، وذلك من خلال صياغة تحالفات إقليمية جديدة في المنطقة والدخول بقوة في أسواق السلاح والطاقة، بهدف إنعاش الاقتصاد الروسي عبر استعادة مجاله السابق في سوق السلاح.
وعلى الرغم من الجدل الكبير حول قدرة موسكو على تحقيق أهدافها، في تثبيت مكاسبها في قواعدها الجديدة في المياه الدافئة، إلا أنها نجحت -إلى الآن- في إيقاف تداعيات انهيار الاتحاد السوفياتي على مصالحها الاستراتيجية، وذلك عبر ولوغها في الدم السوري المستباح، وسط تخاذل عربي وإقليمي ودولي غير مسبوق.