منذ أن صرّح الرئيس الأميركي، باراك أوباما، بأن التدخل الروسي في سورية ليس له سوى اتجاه واحد، وهو الغرق والاستنزاف، نامت أميركا على حرير هذا الاعتقاد، وأطفأت جميع محركات تفكيرها، في مواجهة التوغل الروسي في المنطقة، التي عُدّت إلى حين جزءًا أساسيًا من مجال المصالح الاستراتيجية الأميركية في العالم، غير أن الذين أطربهم كلام الرئيس الأميركي، سيجدون أنفسهم بعد حين في مواجهة مأزق مُعقَّد، وأنهم كانوا أمام عملية تغيير عميقة للمشهد بكامله.
وجدت روسيا نفسها في مناخ مُريح، يتيح لها العمل بدون مضايقة من قوة كبرى، لكنها، في الوقت نفسه، عملت في اتجاهين: فمن ناحية وضعت في أجندتها اليومية تصريح أوباما على أنه قد يطوي استراتيجية أميركية، تحاول الوصول بروسيا إلى هذا المآل “الغرق في سورية”، ولم تنظر إليه بوصفه كلامًا مُرسلًا، ومن جهة ثانية، عملت على تحديث تكتيكاتها دومًا، بما يتلاءم وطبيعة التطورات الحاصلة في الميدان السوري، وفي حقل علاقاتها الإقليمية والدولية التي تتفاعل وتتأثر بتدخلها في سورية.
بموازاة تحركاتها الميدانية الحثيثة، عملت روسيا على تصميم استراتيجية تفاوضية تتكامل مع التغيرات التي تجريها على الأرض، حيث تستخدم بكثافة سياسة الإغراق في التفاصيل، التي تؤدي إلى الابتعاد عن القضايا الرئيسة للصراع، وعدّها (التفاصيل) مداخل إجبارية لإنتاج الركائز الأساسية للحل السلمي، وهي قضايا تعدها روسيا تقنية عملانية، وتتهم الغرب بمقاربة الصراع من زوايا أيديولوجية، تهدف إلى تحقيق مكاسب جيوسياسية، وليس مراعاة منطوق القانون الدولي وحساباته، ومن ضمن تلك القضايا مسألة تحديد من يجب عدهم إرهابيين ومعتدلين، والاستغراق في المعايير المحدّدة لذلك، ثم بيع الغرب قبولها ببعض الاستثناءات، مع تسجيل التحفظات الدائمة التي تسمح لها بين الحين والأخر تفعيل تلك التحفظات، وتحويلها إلى إجراءات ميدانية، كما تفعل في مناطق كثيرة من سورية.
ومن جهة أخرى، تستثمر روسيا مفاوضاتها في شق صف الحلفاء، من خلال استخدامها تكتيكًا إعلاميًا ودبلوماسيًا، يثير الشك في سلوك أميركا تجاه حلفائها، وهو ما تحاول إثارته الآن، من خلال تأكيدها الرغبة في نشر وثائق الاتفاق مع واشنطن، فيما الأخيرة ترفض ذلك، مع أن الاعتقاد يدور حول محاولة استثمار عدم ذكر تلك الوثائق مصير الأسد، وهو أمر كانت واشنطن قد تراجعت عنه بشكل علني، غير أنه “يستحيل” أن تتضمن الوثائق اعترافًا أميركيًا بنظام الأسد، لكن الأمر أن روسيا تُدرك حجم حساسية إدارة أوباما في هذا التوقيت، قبل الانتخابات، من أي نقد داخلي لأدائها الدبلوماسي، ورغبتها في تحويل اتفاق الهدنة إلى انتصار سياسي لها.
على الأرض أيضًا، تستخدم روسيا تكتيكًا تفاوضيًا مهمًا، يقوم على مراكمة المكاسب قبل الدخول في أي عملية تفاوضية جديدة، بما يسمح لها بتوسيع مروحة بدائلها وتقوية خياراتها، والمثال على ذلك مماطلتها في التفاوض مع واشنطن، قبل أن تستعيد حصار حلب من جديد، وتنطلق من هذه الوضعية التفاوضية لتعقيد الوضع التفاوضي للطرف الأخر، وحصر خياراته إلى أبعد مدى، بما يجبره على تقديم التنازلات، أو يجعل شروطه التفاوضية غير منطقية، في ظل اختلال المعادلات على الأرض، وضمن هذه الوضعية، تضمن روسيا توجيه المفاوضات ضمن أسيقة معينة لصالحها، وتصريف إنجازاتها الميدانية على شكل مطالب سياسية، مثل عدّ المطالبة برحيل بشار الأسد غير واقعية في ظل هذه المتغيرات.
غير أن أهم ما تحققه روسيا دائمًا في تفاوضها مع أميركا، بوصفها “ممثلة”، ليس للمعارضة السورية فحسب، بل وللفريق الأخر من العالم الذي يُسمّى أصدقاء سورية كذلك، أنها تُعزّز حضورها وتثبته كواقع خارج النقاش والمداولات، والأخطر من كل ذلك شرعنة سلوكها تجاه الفصائل المعارضة وبيئاتها الحاضنة وتعزيز وضعيتها القانونية، إن لجهة اعتراف العالم بقانونية وجودها في سورية، أو لجهة طي الاعتراضات على ارتكاباتها من جرائم حربية بحق المدنيين السوريين.
الأخطر من كل ما سبق، هو امتلاك روسيا رؤية شاملة لمشهد الصراع، بما يمكّنها من الإحاطة بالمتغيرات الحاصلة في داخله، وتقديرها لتأثير تلك المتغيرات في حال اتخاذها أسيقة منفصلة دون التدخل في توجيهها، وبالتالي، من السهل ملاحظة الإصرار الروسي الدائم على تغيير الديناميات والتحكم بها، فمن المعلوم أن الهدن لا تحصل إلا إذا كانت هناك متغيرات خطرة، واليوم، مثلًا، تجد روسيا نفسها “محرجة”؛ بسبب مناقشة مجلس الأمن التقرير الخاص باستخدام الأسلحة الكيماوية من نظام الأسد، وستكون أمام احتمالين: إما الظهور بمظهر أنها رفضت إجراءات لجنة وافقت عليها، وبالتالي؛ انهيار ادعاءاتها بالعمل تحت سقف القانون الدولي، وهي قضية مهمة لروسيا؛ إذ أنها ترتكب كل الجرائم في سورية تحت هذه الذريعة، أو أنها ستتقيد بنتائج التحقيق، وبالتالي؛ تفتح نافذة لاستهداف الأسد، الحل -إذن- في التوافق مع أميركا وإيجاد منفذ لطي هذه الصفحة.
على ذلك؛ فإن التفاوض وصنع التسويات بالنسبة لروسيا، جزء من العملية العسكرية، ولكن بأدوات غير حربية، ذلك أن كل عملية تفاوضية تخوضها روسيا في سورية لا تكون مجرد بحث عن مخارج للتسوية في هذا البلد المنكوب، بقدر ما تهدف إلى مراكمة المكاسب، أي أن تُحقّق -عبر التفاوض- ما لا تستطيع تحقيقه في العمليات العسكرية، مثل محاولتها الدؤوبة في تفكيك جبهة الفصائل المعارضة، من خلال فرز المعتدل من المتطرف، أو دفع العالم إلى الإقرار بتطرف الثورة السورية بكل مكوناتها وفصائلها.
وفي الخلاصة، استطاعت روسيان، بإدارة انخراطها في الحرب في سورية، حتى اللحظة، بطريقة أضرّت بالطرف الأخر، الثورة السورية وحلفائها، ففي حين استندت هذه الأطراف إلى جملة من الرهانات الخاطئة عن احتمالية استنزاف روسيا وهزيمتها، فإن روسيا تعاملت مع الموقف بطريقة استثمرت فيها حالة الضعف والفوضى الحاصلة في جبهات الطرف الأخر، عسكريًا وسياسيًا، لتفكيك المخاطر، الواحدة تلو الأخرى، وتحويلها إلى فرص قدر الإمكان، وإعادة صياغة المشهد من جديد، وهذا يستدعي من الثورة وداعميها، مغادرة أساليب العمل والتفكير السابقة، لمواجهة هذه المتغيرات الداهمة.