هموم ثقافية

من المتناهي إلى اللامتناهي

الكلّيات أهم، مع أنَّ الجزئيّات مهمة أيضًا

أحيانًا، ينفصل العقل عن الأشياء لكي يدركها. من حقه أن يفعل؛ إذ لولا هذا الانفصال الإيجابي الحاصل -أصلًا- من اتصال مع الجزئيات، لما أُدرِكت الكليات، أعني تلك التي تنطوي على اللا انتهاء. الثورة كل، هنا تكمن أهميتها، ولذلك؛ هي ضرورية لكل مكان ولكل زمان. القيمة أيضًا كل، هنا أيضًا تكمن أهميتها، ولذلك؛ هي ضرورية دائمًا للترفّع عن تقلّبات الجزء. قل الشيء نفسه عن الأخلاق التي لا يمكن تصوّرها نسبيّة، عن “الذُّرية الروحيّة”، عن الكتابة، عن الفكرة، عن نور الكل الذي يساهم في جعل الفرد مدرِكًا ذاته كجملة مركَّبة ومتداخلة من التجارب الحيوية؛ حيث يدرك هذه الأخيرة بناء على رؤيته الشاملة والكلية لحياته في خصوصيتها. في الكل، ينجلي بوضوح، الفارق بين الحوار والتحوير، بين الإقصاء والاستقصاء، تُستَنطق الأشياء، من أجل إقصاء كل ما من شانه أن يعكّر صفو استقصاء جوهرها. الكلُّ نَص مبدع يبقى مفتوحًا وخصبًا إلى ما لا نهاية، وقابلًا للتفكيك وإعادة الإنتاج دائمًا والتحليق، معبِّرًا عن مستويات الوجود وتجلّيات الحضور؛ لأن فضيلة الأجنحة تكمن في أنها، مع كل خفقة، تدرك أن السماء غير محدودة.

الثورة فكر، لأن التفكير أكبر من الشيئيّة، مِثله مثل فكرة الوطن أو فكرة الإنسانية؛ بهذا المعنى، الثورة لا تنتهي، وهي غير محدَّدة بزمان ولا بمكان، الثورة السورية مثلًا، هي -قبل كل شيء- قضية أخلاقية، وهذه -حتمًا- ليس من شأنها أن تكون نسبية، بل إنها الديمومة في ذاتها، مولِّدة الأسئلة وغير مكتفية أو منكفئة في أجوبة. إنها بمنزلة دلالات يُعاد إنتاجها، وبذور معرفيّة يُعاد غرسها، وأفكار تنبعث دومًا من طيّ النسيان، مهما حاول كل مَن هو “خارجها” أن يمعن في التقليل من شأنها، أو إعدامها، أو التنكّر لوجودها أصلًا، كون الثورة -بوصفها كلًا- تُفصِح عن الطابع “الجوّاني” في إدراك الأشياء، وتدرِّب النفوس على فنِّ الإنصات لما ينشده الرمز الثائر بوصفه كلًا وقيمة.

 

سميرة الخليل، رزان زيتونة، وائل حمادة، وناظم حمادي، كلّيات

إنهم مُثلٌ “يجب أن تبقى مضيئة ومُضاءة”، ويعاد من خلالها إنتاج الدلالة وبلورة المعنى والتصور، فيكون بوسع المرء أن يقرّر بشيء من اليقين أن لهؤلاء وغيرهم من الثائرين المدنيين الديمقراطيين المثقفين، بوصفهم رموزًا، سِمة الكلّية المعانِقة للصيرورة؛ هؤلاء ليسوا كائنات تاريخية محدودة ومتناهية، لقد تحوّلوا إلى وجودٍ لُغوي، بوصفه بُعدًا كونيًا وشاملًا، فصار لأسمائهم رنين وصدى، كل البشر فانون بمعنى ما، لكن ليسوا كلّهم خالدين بمعنى ما أيضًا. هؤلاء الذين اختُطفوا في غوطة دمشق الشرقية (دوما) وأمثالهم، هم من الخالدين روحًا وقيمةً. كيف لا، وقد صاروا جزءًا من وجودٍ كلّي، نفسي، اجتماعي وفردي يلتحم ويتواصل، إنهم الأثر على صفحات الزمان والنصوص والذوات، كتوقيعاتٍ منتِجة وخلاّقة.

قوة هؤلاء، وصرامة تجربتهم الثائرة الإنسانية والأخلاقية، تكمن في إيمانهم بأن هذه البلاد، سورية تحديدًا، تستحق الحرية والعدالة والديمقراطية المنبثقة من قلبها، من روحها، من وجدانها. هؤلاء ليسوا رموزًا مفارِقة، بل متصلة دومًا بالأفعال العظيمة التي انبثقت عنها، وبالصيرورة التي شكَّلتها.

أحيانًا، يبدو الغائب كأنه هو مَن يسيِّر مجرى الأحداث، فيصير الفارق بينه وبين الحاضر، هو أن الحاضر، حاضرٌ فحسب، فيما الغائب هو الغائب الحاضر دفعة واحدة. يظنّ المغيِّب، أنه قد غيَّب ضحيّته إلى غير رجعة، لكن غالبًا ما تكون النتيجة مناقِضة لذلك. المسألة أبعد وأعمق، من أنيّ عابرٍ ملموس، أو جزئيّ مارق.

إن الخاطف المغيِّب، هو التناهي في ذاته، والمستنفَد حتى العدم.

 

“داريّا” وثوّارها كلّيات.

في يوم 26 آب 2016 خرج ثوّار مدينة “داريّا” في غوطة دمشق الغربية من مدينتهم مكرَهين؛ خرج ثوارها وثائراتها، المقاومون المدنيون والمقاومون المسلحون، من مدينتهم، من بيوتهم، من أراضيهم، مكرَهين، بعد صمود أسطوريّ حوصِرَ أكثر من خمس سنوات؛ فدخلَها الشبيحة “مُعفِّشين” ورئيسهم “مصلّيًا”، معلنًا النصر على أطفال ونساء ومسنّين وشباب هم كمِثل ورود “غياث مطر” ومياهه الكلّية اللامتناهية، مفرِغًا الديار من أهلها، ليستمرَّ في حكمِ نفسه ورئاستها، إذ “الشبيحة” هو، وهو هُم. ليستمرَّ في حكم نفسه ورئاستها على مرأى من هذا “المجتمع الدولي” الصفيق، وغير العادل إلى هذه الدرجة الفجّة.

ترى مَن الذي دخل حقيقةً، ومَن الذي خرج؟ في المعنى الكلّي، دخلت “داريّا” وأهلها، بوصفها ووصفهم رموزًا للثورة الحقيقية، ضميرَ الكون، ووجدانات الكلّي اللامتناهي؛ فيما خرج الرئيس الشبيح، والشبيحة الرئيس، وكل مَن حالفهم ووالاهم أو تواطأ معهم، إلى أقاصي العدم. إنه رهان المعنى المتجلّي في “جوّانية كونية”، مقابل “برّانية” المهجِّر وعدميّته.

في كل مرة، سوف تُروى فيها ملحمة “داريّا”، سوف ينجلي الفارق أكثر فأكثر بين “الأسطورة” التي هي مهمة للمجتمعات كافة، كمِثل أهمية الحلم للأفراد، وبين “الهندسة الخطابية” الخاصة بالقتلة والسفلة.

“داريّا” مذ دخلها “الشبيحة” وحلفاؤهم ما عادت “داريّا”. “داريّا” الثورة هي تلك الأسطورة التي تشكّلت بفعل الحدث التاريخي الثوريّ الخارق الذي صنعتْه. لقد أضفَت هذه المدينة بُعدًا كلّيًا لا متناهيًا ومغلَّفًا بالجلال على الحدث التاريخي الراهن والآنيّ. “داريّا” بوصفها رمزًا للماء والورد والثورة والقيمة والأخلاق وإثبات كرامة الإنسان السوري، ليست عُرضة لتقلبات الزمان والمكان وتناقضاتهما.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق