كريستينا هاغرفورس
بروكسل- في 27 تموز/ يوليو، وقبل عدّة دقائق من موعد إقلاع الطائرة من بروكسل إلى نيوآرك [الواقعة في ولاية نيوجرسي الأميركية]، اقترب أحد أعضاء طاقم “الخطوط الجوّيّة المتّحدة” وطلب منّي مغادرة الطائرة. عندها، شعرت بالإهانة من الافتراض الصامت الذي دار في ذهن مسافر كان بجانبي، لكنّي لم أكن مصدومًا، فقد كنت أعرف أنّ تركيا تقوم بإلغاء جوازات السفر عقابًا لأولئك الذين تعدّهم منتقدين للحكومة التي تزداد استبدادًا. وبالعودة إلى الوراء، فقد قامت الحكومة التركيّة، في شهر آذار/ مارس، بالسيطرة على صحيفة “Today’s Zaman” الناطقة باللغة الانكليزيّة، والتي كنت أشغل فيها منصب رئيس التحرير؛ لذا، هربت من إسطنبول، مدينتي الأم، لتجنّب المزيد من الانعكاسات، لكنّ الدولة لم تكتف بقسر الصحفيّين، مثلي، على الخروج إلى المنفى.
مع تبدّد خططي للعمل كزميل زائر في جامعة مدينة نيويورك، لم يكن بإمكاني إلّا أن أذرف الدموع في أثناء مرافقتي لقسم شرطة المطار، اكتشفت هناك أنّه قد تمّ إلغاء صلاحيّة جواز سفري قبل ذلك بيومين، الأمر الذي جعلني واحدًا من بين الخمسين ألف مواطنٍ تركيّ الذين ألغيت جوازات سفرهم، وذلك كجزء من عمليّة التطهير التي تلت محاولة الانقلاب في 15 تموز/ يوليو.
قبل عدّة ساعات من موعد رحلتي، كنت قد استيقظت على رسالة، من جاري في إسطنبول، مفادها أنّ الشرطة قد داهمت شقّتي، وفي النّظر إلى حقيقة اعتقال عدد من الزملاء العالقين في تركيا، كنت أعرف أنّ تلك المداهمة آتية، والسؤال المتعّلق بها كان “متى” وليس “لو”. صدر أمر اعتقالي في اليوم نفسه؛ وكان جاري في إسطنبول عصبيًّا جدًّا، طالبًا منّي أن أمسح رسائله كلّها.
علمت لاحقًا أنّ الشرطة صادرت مجموعة من الكتب، كان أحدها بالغة الانكليزيّة، واحتوى غلافه على صورة فيها كلمة “انقلاب”: في تركيا هذه الأيّام، يُعدّ ذلك دليلًا كافيًا لاعتقالك واتّهامك بنشاط إرهابيّ.
لقد كانت محاولة الانقلاب عملًا دنيئًا، وعلى الرغم من حملة الاعتقالات الضخمة التي صاحبتها، فلم يتم التحقيق فيها بالشكل المناسب، ولا عجب من تسمية “رجب طيب إردوغان” لها بـ “الهديّة من الرب”؛ فذلك أعطاه العذر الملائم للتخلّص من كلّ من لا يواليه بشكل كامل.
تبدو لي تركيا اليوم سائرة في طريق لا عودة عنه في اتّجاه الديكتاتوريّة، فمنذ تسمية السيد إردوغان لـ “فتح الله غولن” –وهو رجل الدين المسلم، والذي يعيش في منفاه الاختياري في بنسلفانيا- بالعقل المدبّر للانقلاب، أضحت شيطنة حركة “غولن” خارجة عن السيطرة، لدرجة أنّ سياسييّن من مختلف ألوان الطيف السياسي قاموا بالتسلّق على ظهر تلك الموجة ليسِمُوا تلك الحركة بـ “منظمة فتح الله الإرهابيّة” أو “FETO” اختصارًا لـ ” Fethullah Terrorist Organization”، وذلك على الرغم من غياب أيّ دليل موثوق عن أيّ نشاطٍ إرهابيّ، كما انضمّ إليهم عديد المعلّقين و كاتبي العواميد الصحفيّة، والذين يصفون أنفسهم بالليبراليّين، و الذين قاموا، ومن دون أي تمحيص، بإضفاء الشرعية على تلك التسمية الفاقدة للبرهان، وتبنّيها.
من الصعب الحصول على معلومات موثوقة في تركيا، و يعود الفضل في ذلك إلى حالة الطّوارئ، لكن وفقًا لموقع “Turkey Purge”، وهو موقع متخصّص برصد “صيد السحرة الأشرار”، ففي لحظة كتابة هذه المقالة يقبع 117 صحفيًّا خلف القضبان، و كان قد تمّ إغلاق 160 وسيلة إعلاميّة، ولا تمثّل تلك الحقائق إلّا جزءًا صغيرًا من القمع الجاري؛ فقد تمّ، في المحصّلة، تعليق أو طرد 100.000 شخص من أعمالهم في الحكومة، و تمّ احتجاز ما يقارب ال 43.000 شخص واعتقال 23.770، كما تمّ سجن بعض الشخصيّات العامّة المحبوبة، كالممثّل “أتالي ديميرسي” و المطرب المشهور “أتيلا تاس”، وذلك بسبب الاشتباه بارتباطاتهم مع حركة “غولن”.
لقد فقدت الأمل في أن يقوم عموم الناس بطرح الأسئلة حول التأكيدات الأحاديّة، من دون أيّ منازع لها، التي يسمعونها من الحكومة على محطات البث كمحطّة “سي.إن.إن” التركيّة، لكن تكمن خيبة أملي الأكبر في مثقّفي و نخبة البلاد، مع بعض الاستثناءات القليلة، و التي افتقدت أسس النزاهة عندما لم تقم بشيء فيما عدا الترديد الببغائي للاتّهامات التي رماها السيّد إردوغان على خصومه.
تكمن المشكلة مع أولئك المثقّفين في جذب انتباه العالم لهم؛ وذلك بسبب وجود القّلة من الناس التي تستطيع الكتابة باللغة الإنكليزيّة من داخل تركيا، حيث يفترض عديد المراقبين الأجانب أنّ المعلومات الآتية من العلمانيّين واليساريّين والذين يُسمَّون الليبراليّين لا تزال جديرة بالثقة؛ ولربّما كان ذلك بسبب الافتراض القائل بأنّ نمط حياتهم الغربي يعطيهم طريقة تفكير غربيّة، أيضًا. لكن، في الواقع، قد يكون العلمانيّون على المستوى نفسه من عدم التسامح والتعصّب حيال الإسلاميّين السياسيّين. فعلى سبيل المثال، لقد أدّى إلغاء صلاحية جواز سفر “ديليك دوندار”، في الثالث من أيلول/ سبتمبر، إلى موجة احتجاجات على وسائل الاتصال الاجتماعيّة، كان ذلك الاحتجاج محقًّا؛ وذلك لكونه محاولةً لمعاقبة زوجها الصحافي اليساريّ المنفيّ “كان دوندار”، وعلى الرغم من امتهان الحكومة التركيّة ذلك النوع من الممارسات لعدّة أشهر ضد المتعاطفين مع “غولن”، فلم يبدِ العلمانيّون الأتراك أي ردّة فعل بشأنها إلّا عندما طالت شخصًا من اتّجاههم الايديولوجي نفسه. وفي الوقت ذاته، عندما لم تعثر الشرطة على أحد كبار محرّري صحيفة الزمان الأسبقين، “بولنت كوروكو”، في منزله، قامت باعتقال زوجته بدلًا منه، لكن، بصعوبة، تمّ ذكر ذلك الأمر في الأخبار.
من المتوقّع أن يقوم الطغاة باختلاق الأعداء، أجانب ومحلّيّين، بهدف حشد الأمّة من ورائهم، لكن ماذا نقول عن نخبة تركيا الجبانة؟ ففي الأوّل من أيلول/ سبتمبر، وجّه كبار القضاة تحيّة واقفةً لإردوغان من قصره الباذخ، ليعلنوه الرئيس المؤكّد على رأس السلطة التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة.
يتكوّن المجتمع التركي من اللّونين الأبيض والأسود، ولا وجود للّون الرمادي فيه، وإنّ المثقّفين غير محصّنين من ذلك التقسيم، وفي مناخٍ كهذا، بصعوبة بالغة يتمكّن الديمقراطيّون الحقيقيّون، والذين يعانون مسبقًا من قلّة الدعم، من إسماع أصواتهم.
إنّ ذلك التطبيق الانتقائي للحقوق الديمقراطيّة من جانب مثقّفي تركيّا لن يساعد إلّا في تعزيز قوّة إردوغان، والذي يجد في ازدواجيّة معاييرهم قبولًا صامتًا لعمليّات التطهير التي يقوم بها. لا تفتقد تركيا إلى مؤسسات صلبة تضمن نظامًا من المحاسبات والتوازنات وحكم القانون فحسب، إنّما تفتقد أيضًا إلى كتلة المواطنين التي تملك الشجاعة والنزاهة للمطالبة بها.
لقد كان في إمكاني البقاء في بلجيكا، وذلك بفضل منحي إقامةً موقّتةً هناك، وقد أكّدت الشرطة البلجيكيّة لي، مؤخّرًا، بأنّ جواز سفري قد عاد فعّالًا الآن؛ ولربّما يعود الفضل في ذلك إلى المعارضة العالميّة لحملة إلغاء جوازات السفر التركيّة، لكنّي، وعلى الرغم من ذلك، ما زلت أعيش في حالةٍ من عدم اليقين، آملًا في إيجاد ملاذٍ، كصحفيّ في المنفى، وفي مجتمعٍ يبارك حكم القانون. لكن من الصعب ألّا يقودني النظر إلى بلدي، وإلى فشل النخبة المثقّفة التركيّة، إلى اليأس.
سيفجي أكارسيزم هي رئيس تحرير صحيفة “Today’s Zaman” الأسبق.
.
عنوان المادة الأصلي بالإنكليزية | Turkey’s Intelligentsia Kneels to Erdogan |
اسم الكاتب بالعربية والإنكليزية | سيفجي أكارسيزم SEVGI AKARCESME |
مصدر المادة أو مكان نشرها الأصلي | The New York Times |
تاريخ النشر | 14 أيلول/ سبتمبر 2016 |
رابط المادة | http://www.nytimes.com/2016/09/15/opinion/turkeys-intelligentsia-kneels-to-erdogan.html?ref=opinion |
اسم المترجم | أنس عيسى |