تحقيقات وتقارير سياسية

“جبهة فتح الشام” تبحث عن ثوب جديد

هل يمكن القول أن زعيم “جبهة فتح الشام”، أبو محمد الجولاني، يبحث عن “ثوب جديد” لتنظيمه، وأنه يميل للاقتراب أكثر من “الواقعية السياسية”، وهل أدرك أن الواقع على الأرض أعقد من “نياته” وأنه مضطر للتعامل مع إفرازات هذا الواقع وتشابكاته، أكثر من العيش في “الحتميات”، وهذا يفرض عليه البحث عن طريق جديد، ومقاربات مغايرة لتلك التي اعتاد عليها خلال السنوات الماضية.

ربما يكون كذلك؛ لكن الطريق أمامه لن يكون سهلًا، فالخروج من العباءة والجلباب والنسق القديم ليس أمرًا هيّنًا، فهناك جيل كامل من المقاتلين الإسلاميين الذين ترعرعوا على أدبيات معينة، لا يمكن تغييرها بين عشية وضحاها، خاصة في ظل الصراع بين “جبهة فتح الشام” و”تنظيم الدولة الإسلامية”، من جهة، وبين “جبهة فتح الشام” وفصائل أخرى منافسة.

يواكب هذا الصراع الإسلامي الداخلي، إن جاز التعبير، إعلان موسكو وواشنطن توحيد جهدهما للقضاء على الخصمين اللدودين معًا، واجتثاثهما من الساحة، ورفض أي وجود لهما معًا، وهو ما يُعقّد من مهمة الجولاني؛ للانتقال إلى مرحلة جديدة من العمل الجهادي.

المشكلة التي تعصف بـ “جبهة فتح الشام” حاليًا، هي الواقع الذي يضعها في مواجهة أعداء على أربع جبهات دفعة واحدة؛ العدو الأول قوات الأسد وحلفائه، من الإيرانيين وحزب الله اللبناني والمليشيات الشيعية العراقية والأفغانية، والثاني “تنظيم الدولة الإسلامية”، والثالث الفصائل المنافسة من الجيش السوري الحر وغيره. أما العدو الرابع، فهو الروس والأميركيون معًا، وهي جبهات مفتوحة ومُمتدة، وأكبر من قدرة الجولاني وتنظيمه على التصدي لها كلها دفعة واحدة، ولذلك؛ فهو يعمل على “تبريد” بعض الجبهات من أجل التفرغ لجبهات أخرى، وخاصة مع الفصائل المنضوية تحت مظلة الجيش الحر، والاقتراب منها؛ لتخفيف الضغط الذي يواجهه التنظيم من الأعداء الوجوديين (نظام الأسد، وتنظيم داعش، والروس والأميركان)، وهذا ما ظهر جليًا في مقابلته التلفزيونية الأخيرة مع قناة الجزيرة، لذلك؛ يحاول الجولاني البحث عن مسار جديد في مواجهة التحديات الداخلية والإقليمية والدولية، وكان لافتًا في تصريحاته الأخيرة تركيزه على ضرورة اندماج الفصائل السورية، وتشكيل جسم موحّد باسم واحد، مستندًا -في دعواه- إلى التبرير الديني والعسكري، بقوله: إن “الاندماج مبدأ شرعي، والفطرة السليمة تميل نحو الاندماج والتوحد، الذي أظهر لنا نتائج كبيرة عسكريًا، فإذا حدث الاندماج، فإن القوة التي ستكون للفصائل المندمجة تفوق -بمرات عديدة- ما يمتلكه النظام”.

وفسّر شكل الاندماج المطلوب على أنه “إنشاء كيان قوي لأهل السنة، يجمع شملهم، ويدافع عن حقوقهم، ويُمثّلهم، ولديه القدرة على التحريك العسكري”، وبرر تأسيس هذا الكيان بقوله: إن “معركتنا أصبحت للدفاع عن الوجود ضد خطر المشروع الرافضي المدعوم أميركيًا، الذي سيطر على العراق، وأجزاء من اليمن، وربما لو لم يتم إيقافه، سينتقل نحو شرق الجزيرة العربية”؛ وهذا -برأيه- يتطلب إخماد نار الخلافات بين الفصائل السورية المتعددة، وغض الطرف عن بعضها؛ لأن “ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا”.

لغة زعيم “جبهة فتح الشام” عادية في شقها الميداني العسكري، الذي يُجيد اللعب فيه، أما الجديد في خطابه، فهو البعدين: السياسي والاجتماعي، اللذين يمكن عدّهما قضيتين مستحدثتين؛ حتى وإن ذُكرتا -لمامًا- فيما مضى، فقد تطرق إلى مسألة تعليم السوريين بتحذيره من خطر بقاء الوضع الحالي على الأجيال المقبلة قائلًا: “إن هناك جيلًا مهددًا بالأمية، حيث ينعدم التعليم النظامي في المناطق المحررة.. ربما إن بقي الحال هكذا، سيخرج لنا جيل لا يجيد سوى السلب والنهب بعد سنوات”.

وللمرة الأولى يطرح قضية مهمة غير معتادة، وهي رغبته بالدخول في اللعبة السياسية الدولية، ملمحًا إلى “ضرورة وجود سفير سوري يمثل الفصائل القوية في المحافل الدولية، بشرط أن يتعامل بندية، ويطالب بحقوق السوريين بأكملها”، منتقدًا دور الأمم المتحدة والولايات المتحدة في سورية؛ لأن “أهدافهم متفقة مع ممارسات النظام السوري من جرائم وتهجير”، ولم يكتف بذلك، بل هاجم المبعوث الأممي قائلًا: “السير وراء دي مستورا والمجتمع الدولي فيه إذلال للشعب السوري، الذي خرج من أجل المبادئ والكرامة، وليس من أجل الحليب”.

يحاول الجولاني الاقتراب من كل الفصائل العسكرية السورية، ويشكر الفصائل الثورية السورية؛ لرفضها استثناء جبهة فتح الشام من الاتفاق الروسي – الأميركي، مؤكدًا أن استهداف جبهته “ربما هو جزء من مخطط أمني بين روسيا والولايات المتحدة”، إلا أن الروس نقلوا شكوك الجولاني من دائرة التخمين والشك إلى دائرة اليقين، عندما كشف مندوب روسيا في الأمم المتحدة، أن موسكو وواشنطن اتفقتا على تنسيق جهدهما العسكري ضد فتح الشام، وعدم عدّها جزءًا من المعارضة السورية المسلحة.

لغة الجولاني تضمنت تكرارًا لكلمة “ربما”، مثل “ربما ينتقل.. ربما يخرج.. ربما إن بقي الحال… إلخ”، وهي لغة بعيدة عن الحتميات التي اعتادت عليها الفصائل الإسلامية، وعلى رأسها “جبهة فتح الشام”.

قد لا يرى بعضهم هذه التحولات مهمة أو ذات قيمة، ولكنها داخل “البيت الإسلامي” مؤثرة، ويمكن أن تؤدي إلى انشقاقات وصراعات بين أصحاب “الحتميات”، غير القابلة للنقاش، وبين المتحولين إلى “الرؤية الواقعية”.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق