عندما فكرتُ بما جرى في مؤتمر الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، وكيف تم تعهيده إلى “ضباط الثقافة”، ومسؤولي السجون في الأنظمة العربية، تذكرت أن القصة قديمة، ولم تبدأ مع الثورة أو بعدها، وما حدث في المؤتمر العام للأدباء والكتاب العرب، الذي استضافته دبي منذ حوالى ثلاثة أسابيع، لم يكن صدفة، فقد حدثت معي، قبل ثلاثين عامًا، قصة شبيهة، وحوارًا “ديمقراطيا” عن الوضع الثقافي السوري بين ضابط أمن وبيني، انتصر فيه ضابط الأمن!
عام 1986 كان المجتمع السوري، بعد أن قُتل منه مَن قُتل، وسُجن مَن سُجن، قد استقر في قبضة الأمن السوري، بفروعه المتعددة، كما أراده “الأبد” أن يكون، وبات كل نشاط في هذا المجتمع لا بد له من المرور في قناة أمنية أو أكثر، قبل أن ينتقل إلى الحيز العلني، بما في ذلك حفلات الختان والعمادة، وإجازات بيع الفلافل وصناعة المفاتيح، وبيع المهرّبات من دخان وكحول ومخدرات، وممارسة الدعارة والشعوذة، وصولًا إلى كل ما هو ممنوع قانونيًا ومسموح به مخابراتيًا، بعد دفع الثمن.
في ذلك الزمن الأسود، المُشبع بروائح الدم، كنت بحاجة إلى جواز سفر، ولمّا كنت قد حصلت قبل عام على عدم الموافقة الأمنية على طلبي الأول، لتهديدي الأمن العام، كان لا بدّ لي من الإسراع في تبرئة نفسي من التهمة المسبقة، والسير في الطريق الوحيد المفتوح أمام السوريين؛ طريق المخابرات، أو “نفق الذل” كما أسمته الكاتبة سميرة مسالمة، في روايتها التي تحمل الاسم نفسه.
سلّمني أول الخيط صديق بعثي قديم، قبل أن يتحول إلى التجارة، قائلًا: لا تترك أحدًا دون أن تدعيه للغداء أو العشاء، الهدف المنشود من وراء ذلك الوصول إلى رئيس قسم التحقيق في فرع الأمن العسكري، الذي كان قد ابتنى لنفسه قلعة على طريق حمص، خارج حماه، فهو صاحب القرار النهائي فيما يتعلق بجواز سفرك.
بعد سلسلة دعوات، بدأت من مكتب محافظ حماه، مرورًا بنقيب المعلمين، ثم رئيس اتحاد الفلاحين، وصلتُ أخيرًا إلى الحلقة التي أوصلتني إلى ضابطـ الأمن المنشود. استطاعت وجبات الطعام التي ملأت “كرشه” وكرش غيره، أن تجعله يقتنع أنني، مواطن “صالح”، على الرغم من كوني سجين سياسي قديم مُغرر به، وعليه أن يبرهن دائمًا عن “حبه للوطن والقائد”.
أحد أيام انتظار الموافقة على جواز السفر كنت في حماه، ليس من أجل الحصول على “السمن العربي الحموي”، ولا من أجل تحلية أضراسي بحلاوة الجبن، أو البحث عن “فروة” حموية الصنع أواجه بها البرد المقبل، وإنما من أجل متابعة هموم ثقافية – تجارية تتعلق بمكتبتي وتجارتي، وبعد أن أنهيت أعمالي مساء، اتصلت “بصديقي” ضابط الأمن كي أسلّم عليه وأذكّره بنفسي، فرد آمرًا أن أذهب إليه في الفرع، ففعلت. في التاسعة ليلًا تملمت في مقعدي، محاولًا التعبير عن رغبتي بالذهاب إلى حمص، فقال: اجلسْ، بعد أن ينتهي الدوام سأصطحبك بسيارتي إلى حمص، فهمدتُ في مكاني، وقد أصبح رأسي “قد الدنيا”، فغدًا سأستعرض بطولاتي أمام الناس قائلًا إن ضابطًا كبيرًا في الأمن قد أوصلني من حماه إلى حمص!
ما أن خرجت “البيجو 504” من الفرع، وأخذتْ اتجاه حمص، حتى بادرني الضابط بسؤال صعب عن رأيي بشعر أدونيس. فانتابتني رعشة الخوف من الفخ الذي ينصبه لي السؤال، فعدا عن كوني قليل الاهتمام بالشعر عامة، فأنا لا أفهم أغلب ما يكتبه أدونيس، ثم إنه يجب أن أُقدّر ما إذا كان الرجل من المعجبين بأدونيس أو من الحاقدين عليه. حاولت اللعب على الجواب، إلى أن فهمت أن الرجل من عشيرة أدونيس، فانفرجت أساريري وبدأت في كيل المديح إلى الشاعر وعبقريته وموسوعيته الأدبية، وخاصة إلى أثره في الأدب العربي خاصة. ولم تفُتني الإشارة إلى الثورة الكبرى التي أطلقها في كتابه العظيم عن الثابت والمتحول، وكنت مقتنعًا نسبيًا بذلك.
كان السؤال الثاني، وقد انفرجت شفتاه الحجريتان عما يشبه ابتسامة الرضا، عن رأيي في الوضع الثقافي السوري.
مرة جديدة شعرت بخطورة الكمين، فأنا أتكلم مع ضابط أمن، ولست في مؤتمر للاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب، أزاود فيه على المستمعين، وأبيعهم شعارات لا تكلفني شيئًا، فهنا الكلمة الواحدة قد تؤدي إلى الموت، دون مبالغة، وكنت قد سمعت من فم الرجل، في إحدى زياراتي له في مكتبه، أنه قتل 52 حمويًا، فلن يكون من الصعب عليه إضافة واحد أو أكثر إلى قائمة “الشرف” التي يفتخر بها.
قلت له: هل تريد أن تسمع جوابًا كضابط أمن أو كباحث عن الحقيقة؟
قال: تكلم، عليك الأمان، فنحن بين حمص وحماه.
قلت له: لا توجد حياة ثقافية في سورية.
قال: وماذا تسمي كل هذه الكتابات في الصحف والمجلات، وكل هؤلاء الكتّاب؟
قلت له: إنهم مجموعة “معتاشين”، وانتهازيين، يريدون العيش وكسب ودّكم، ويعرفون أن وسيلتهم الوحيدة لذلك هي الكذب؛ الكذب الذي تحول إلى جزء أصيل في تكوين كل من يكتب، لذلك؛ لن تجد كلمة حقيقية واحدة في هذا الركام من الصحف والمجلات، من أجل ذلك قلت لك لا توجد حياة ثقافية في سورية.
قال، مقتنعًا، وكأنني أسمعه اليوم: ولكن سيادة الرئيس قال: “لا رقابة على الفكر إلا رقابة الضمير”، فمما يخاف هؤلاء، أليس عندهم ضمير؟ ألا يعرفون فعلًا أن سيادته قد منحهم حصانة بقوله إن ضميرهم هو الرقيب الوحيد على ما يكتبون؟
كانت حماه 82 غير بعيدة عنا، لا جغرافيًا ولا زمانيًا، ولكن لحسن الحظ كنا قد أصبحنا عند ساعة حمص القديمة، التي كانت تشير إلى منتصف الليل.
لم يخطر ببالي، وأنا أسمع نضال الصالح، رئيس ما يُسمى اتحاد الكتاب الأسديين، وهو يقرأ البيان الختامي لمؤتمر اتحاد الكاتب والأدباء العرب في دبي، إلا ضابط الأمن الذي أوصلني إلى حمص، الذي تكلم عن المؤامرة الإمبريالية الرجعية التي تريد أن تعيد سورية إلى أيام الظلام، وعن الإرهاب الذي ضرب في كل مكان في سورية، وأنه لولا القيادة الحكيمة لسيادته، لكنّا الآن في القبور. وختم قائلًا: مَن لا يُفكّر مثلنا لا يستحق أن يحمل لقب مثقف، وهو أصلًا ليس هكذا.
من المضحك المبكي أن حبيب الصايغ، رئيس الاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب، أعلن في المؤتمر نفسه، الذي تلا بيانه الختامي ممثل نظام القتل الأسدي، أن هذا المؤتمر سيُطلق للمرة الأولى فعلية أدبية اسمها “يوم الكاتب العربي”. علمًا بأن حبيب الصايغ وغيره من الكتاب، الذين يعملون تحت راية “لا رقابة على الفكر إلا رقابة الضمير” قد استبعدوا من مؤتمرهم رابطة الكتاب السوريين، التي تمثل حوالي 300 أديب وكاتب ومفكر معارض. وبما أن ضمير الأدباء العرب لا رقيب عليه، فإنهم لم يشاهدوا ما حل بسورية وشعبها من قتل وتدمير، ولم يسمعوا بالأدباء الذين قتلهم نظام الأسد أو اعتقلهم أو غيبهم، ولم يروا في كل ذلك إلا الإرهاب، ذلك المصطلح الذي يستخدمه نظام الأسد في وصف ثورة الشعب السوري.
أخيرًا، ليس “كل الحق على الطليان”، ولا بدّ من الإشارة إلى عيوبنا وخاصة تقصيرنا، في مؤسسات المعارضة، فنحن، وأنا أشير هنا تحديدًا إلى رابطة الكتاب السوريين، الذي أنا أحد أعضاء مكتبها التنفيذي، أننا لم نستطع، خلال السنوات الماضية، أن نبرهن على حضور فاعل في الوسط الأدبي والفكري السوري خاصة والعربي عامة، ولم نعمل ما يكفي كي نقنع الأدباء السوريين، قبل غيرهم، أننا نمثلهم وأننا صوتهم الذي يدافع عن مصالحهم، فكيف سنقنع غيرهم؟؟؟