كلمة جيرون

الجماهير لا تأكل التبن والشعير

الجمهور أو الجماهير أو الجمهورية؛ مفاهيم مرتبط -مباشرة- بالسياسة وعلم الاجتماع؛ لأنها تعبر عن “الشعب”، كما يحب أن يسميه الساسة. وقد ورد في المعاجم العربية أن “الجُمْهور من كلِّ شيء: معظمه، والجُمْهور من النَّاس: جُلُّهم، والجمع: جماهِيرُ”. وهم، أي الجماهير، مصدر السلطات في النظام الجمهوري، وموضوع هذه العلوم السياسية ومادتها وأداتها وغايتها. وهم –أيضًا-، وهذا ما يهمنا هنا، “الملعب” ذاته الذي يلعب فيه السياسي والمفكر والمثقف والفنان، إنه الغاية والهدف الأساس من هذه “اللعبة” المعرفية والسياسية.

وإذا كانت السياسة هي “فن الممكن”، وبالتالي؛ الإقناع فيها يقوم أصلًا على المراوغة والكذب، فإن الفن والإبداع -عمومًا- هو “فن المستحيل”، والإقناع فيه يقوم -أولًا وأخيرًا- على المشتهى والمأمول و “المتخيل”؛ أي الشَّرطي، المبني على “الصدق الفني”، والمتشابك مع الواقع المادي.

ولو تمعنّا في مقولة “الصدق الفني” -تحديدًا- لاكتشفنا أن الفن -في جوهره- عملية إيهام إبداعية متقنة؛ أي كذب أبيض ساحر ونبيل، أو كذب متفق عليه. إنه التواطؤ اللذيذ والحوار المهموس بين قطبي اللعبة الفنية: المرسل/ المتلقي، وهو المتعة المعرفية والجمالية الأولى، وليست الأخيرة، التي يقدمها الفن. ولذلك يكون الفنان في “كذبه” أصدق من السياسي في صدقه.

وإذا كانت السلطة تعدّ الجماهير -كل الجماهير من دون استثناء- هي الشعب، فإن جمهور الفن -بالضرورة- هو جزء من هذا الشعب؛ وهو الجزء الفعّال والمتفاعل مع القيم الإبداعية، أي المنتِج لها؛ فلا يُعقل –طبعًا- أن يكون الناس كلهم جمهورًا للأبداع بأنواعه المختلفة-على الرغم من أهميته- كما لا يُعقل أن يكون الشعب كله جمهورًا للسلطة السياسة، وإن كانت الجماهير تطمح إلى ذلك. لكن السلطات –وبخاصة المستبدة منها- تعمل جاهدة على جعل الجماهير قطيعًا يمتلك ذوقًا واحدًا وثقافة واحدة ورؤية سياسية واحدة، كما تعمل على احتكار ومصادرة جماهير السياسة والثقافة؛ وحتى الرياضة، وتحويلها إلى رعية مؤيدة للطغمة الحاكمة؛ مصفقة لها.

لذلك، من السهل اكتشاف الأهداف الخبيثة للساسة والمنظرين الذين نادوا -وينادون- بالفن الجماهيري الملتزم بقضايا الأمة، ويدعون إلى ثقافة المقاومة والممانعة والعمل من أجل الوحدة الوطنية، ورص الصفوف خلف القيادة الحكيمة…إلخ. يريدون أن يحتووا ويشاركوا المبدع الحقيقي في منبره؛ لم تعد تكفيهم وزارات التربية والإعلام والثقافة والنقابة والبرلمان… يجب على هذا النشاط الإنساني الخلاّق (الإبداع) أن يكون -أيضًا- بوقًا من أبواقهم الأيديولوجية؛ يستطيعون -من خلاله- جمع شتات “الأمة”، أو أن يكون –على الأقل- جسرًا جميلًا، تحتاجه السلطة القبيحة؛ كي يساعدها في قيادة الجماهير ورعايتها؛ متنكرة بذلك لطبيعة المبدع الحر، الحرون، الذي يصعب، إن لم نقل يستحيل ترويضه إلا في فضاء الحوار والحرية.

كما أرادوا للإبداع -وهذا ما يكمل المشهد- أن يؤدي شخصية الشرطي المهذب الخلوق، الذي يمكن أن يلعب أدوارًا خبيثة في ترويض جماهير “الشعب”، وتشذيب أخلاقها؛ وقد نجحوا في ذلك وأخفق الإبداع، حتى بات عدد كبير من المفكرين المعروفين -على امتداد الوطن العربي والعالم- ينظّرون للفن الثوري والتعليمي والطليعي والملتزم والمسيَّس والحزبي والشعبي والوطني؛ متخذين الفنان مربيًا وموجهًا؛ حتى تحولت الفنون، التي أوجدتها البشرية لتكون فسحة للتأمل والتفكير والمتعة والحوار، إلى سجن كبير، إن لم نقل إلى زريبة أغنام مغلقة، أو مختبر لمسح الأدمغة وإعادة برمجتها؛ داعين إلى تحويل منابر “الشعر” إلى منبر واحد: عقائدي شعاراتي، يرتفع فيه الضجيج وتنخفض القيم الفنية.

كم صفقنا -نحن الجماهير- لعبارة طنانة يطلقها كادح في وجه بورجوازي خسيس، أو مشهد لفدائي بطل يهتف وهو يموت: “عاشت فلسطين”… فهل كنا نصفق للفن أم للشعارات التي كانت تلهب مشاعرنا وتهيمن على وعينا؟ وهل كنا نرضى حينها بغير هذه الشعارات “العَلَف”؟

إن الفن الرديء لا يستطيع أن يحمل أفكارًا جيدة، والجمهور المنحاز لأفكار مسبقة، يستطيع؛ بل يصلح لأن يكون جمهورًا لأي شيء، لكنه لا يمكن أن يكون جمهورًا للثقافة والفكر ولإبداع الفني، فالإبداع المُصادر، مسبق الصنع، لا يصلح إلا علفًا للقطيع، في زمن يحكمه الخوف والخنوع، وتسيطر فيه ثقافة التبن والشعير، ويقوده النقد المأجور والإعلام المنحاز والذوق التافه

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق