على مرأى من الأشقاء، تعرضت الدولة السورية، لكل أنواع التحطيم لمؤسساتها من نظام قام بتسخيرها وجعلها أداة حرب لحماية سلطته، ففرغها من محتواها، وحيّدها عن دورها الطبيعي، إن كانت عسكرية التي دورها المفترض حماية الشعب والوطن، أم مالية وخدمية لتأمين حاجاته وحفظ كرامته، كذلك وعلى مرأى من الأشقاء، تم العمل على تحطيم المجتمع السوري، وإيجاد شرخ عامودي عميق بين العديد من مكوناته، كما مورس بحق السوريين -أفرادًا وجماعات- كل أنواع الإرهاب والجريمة المنظمة، فأصبح رقم الضحايا، من شهداء ومعتقلين ومصابين ومشردين ومفقودين، بالملايين، لتكتمل الجريمة بالتدخل المباشر والفاعل لعدّة دول، وجميعها قد أعلنت ذلك صراحة، بل وبعضها أعلن مشروعه؛ فأين العرب وما هم فاعلون، على الأقل للحفاظ على ماء الوجه في منطقتهم الجغرافية الحيوية.
معالم سورية تتغير عمدًا بالفعل الإيراني
تدّخلت إيران -بكل ثقلها- لدعم حليفها بشار الأسد، لكنها في الوقت ذاته، لم تخف نيّتها بأن الأسد ونظامه ليس هو الغاية، بل الوسيلة التي تريد من خلالها السطو على هذه البلاد، كمسرح تقرر شؤونه وديكوره وممثليه وطريقة العرض؛ ليصل لها الجغرافيا من العراق نحو لبنان، وهذا الفعل تواظب عليه منذ عقود بشكل هادئ وحثيث، كإحدى امتدادات إمبراطورتيها التي تريد لها أن تُصبح أمرًا واقعًا، فتُرسل آلافًا من المرتزقة، للقتل والسطو على الممتلكات، فيلطمون في شوارع المدن الرئيسة، وبشكل خاص الجامع الأموي برمزيّته في قلب دمشق، وسوق الحميدية التاريخي، ويحاولون بالوسائل المادية والمعنوية كافة، تغيير التاريخ الطويل لتلك المعالم التي لطالما تغنى بها العرب جميعًا؛ لتأتي روسيا أيضًا بكل ثقلها، وتصبح قوة فاعلة ومقررة على الأرض وفي الجو والبحر. ومن جانب آخر، تقرر أميركا الصفقات السياسية، التي تجمّد كل شيء من خلالها، وتأخذ الجميع نحو حسبانها واقعًا، ويغيب العرب عن أي فعل بما فيه الاحتجاج الكلامي، ما خلا بعض التصريحات الخجولة التي تتأمل وتتمنى، لكن سقفها لا يتعدى تعبئة عناوين الصحف أو بعض الأخبار.
يتساءل السوريون -يوميًا- عن أشقاء اللغة والتاريخ والهمّ المشترك، وبعض أسئلتهم تأتي بصيغة العتب أو الألم، وأخرى -للأسف- بصيغة التبرؤ من تلك الروابط، وكأنها كانت الحمل الثقيل التي أودت بهم وبوطنهم إلى هذا المآل المر، بل والتشكيك في صحتها، فهول ما مر عليهم أصبح -بحكم الضرورة- يطرح السؤال على الأشقاء: أين أنتم وماذا ستفعلون؟ وهذا السؤال بالتأكيد سيضعه المؤرخون أمامهم يومًا ما، في مسار بحثهم عن فعل حقيقي، يصلح كي يبنون عليه مفرداتهم وبنود صوغهم للتاريخ، بحقيقة أن الحاضر محطة مفصلية على طريق الانتقال إلى المستقبل، فيبدو المشهد كئيبًا لدرجة أن ما نعاصره الآن، لا يدلّ على وجود نبض يؤشر إلى الحياة في هذا الجسد الرسمي والشعبي، سوى بعض مشاهد المتابعة لدراما رمضان في موسمها، وحفلات الصخب في بعض البرامج؛ لاختيار نجوم غناء أو تمثيل.
لجنة المراقبة التي لفظت أنفاسها على وقع جرائم النظام
عندما جاءت بعثة “مراقبي جامعة الدول العربية إلى سورية”، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، توقّع عدد من المتابعين أن تأخذ الدول العربية زمام المبادرة، وتقطع الطريق على الجميع، فتلك اللجنة المكلّفة “بالتحقق من تنفيذ بنود الخطة العربية لحل الأزمة السورية، وتوفير الحماية للمدنيين السوريين”، تم تكليف اللواء أول محمد مصطفى الدابي رئيسًا لها، ووصل إلى سورية في 24 كانون الأول/ ديسمبر 2011، لتنطلق مهمّته مع بعثته التي ضمّت نحو 50 شخصية عربية “متخصصة”، كما قيل عنها، وكان ذلك بالتوافق مع النظام السوري، حيث تم توقيع بروتوكول بين الجامعة وممثلي النظام، إلّا أن هذه اللجنة تعرّضت لانتقادات حادة؛ بسبب طبيعتها، خاصة أنها بقيادة شخصية عسكرية، متّهمة دوليًا بارتكاب جرائم حرب في دارفور، إلّا أن الجامعة تغاضت عن ذلك، وقالت: إن الدابي يتمتع بصلات جيدة مع النظام السوري، وهذا سيساعده في عمل اللجنة، والحقيقة كانت النتائج عكس ذلك، وعلاقته مع النظام السوري أدّت إلى أن يخرج بتقرير هزيل ومشوّه، ولا يرتقي إلى حجم الدم والتضحيات السورية، واستمر النظام بارتكاب المجازر، بل ترافق عمل اللجنة وتقريرها مع زيادة إدخال كافة الأسلحة التي يمتلكها في حربه على شعبه ومدنه، فبدا الشعب كله في سجن، يتعرّض فيه لأنواع العقوبات كافة، وبدت جامعة الدول العربية كرئيس ديوان يراكم الأوراق بأمر قائد السجن، لتُنهي مهمّة الدابي في شباط/ فبراير 2012، وتطلب إحالة الملف السوري إلى مجلس الأمن، معلنة عبر خطاب أمينها العام -آنذاك- نبيل العربي عن عجزها.
تخلّت بعدها الدول العربية عن سورية، بشكل واضح، وأصبحت تتعامل مع الموضوع من خلال بعض الكلمات الواردة في خطابات القمم العربية التي مرّت خلال السنوات السابقة، وأيضًا بعض اللقاءات في المحافل الدولية، وكأنها محاولة لتبرئة الذمة، وحتى بعد اعتمادها الائتلاف كممثل للشعب السوري، تدرّجت الأمور معها لتصل إلى التوقف عن اعتماد أي نوع من التمثيل للسوريين، وكأن ما يُطبخ بهدوء، هو إعادة شرعنة النظام بطريقة ما، بطريقة تُذكرنا بما جرى بعد اغتيال الرئيس الحريري، وتشكيل المحكمة الدولية، ثم السير في مصالحات إقليمية، أعادت إنتاج الأسد.
السوريون في وجه أكثر من قاتل
وفي صورة أكثر وجعًا لدول استقلّت منذ أكثر من نصف قرن، تأتي روسيا للتحكم بالمياه والمعابر الشرق أوسطية، ولتصبح مؤثرة من خلال قاعدتها المطلّة على البحر الأبيض المتوسط، الذي -بدوره- تطلّ عليه سبع دول عربية، إضافة إلى سورية، في ذلك الوقت بالذات، صرّحت إيران على لسان مسؤوليها بأنها باتت – بعد دخولها دمشق- تتحكم بأربع عواصم عربية، وللأسف، كل هذا لا يستدعي اجتماعًا عربيًا؛ حتى على مستوى سفراء، لبحث الأمر ونتائجه ،إن كان سلبًا أم إيجابًا، بل وكأن الرّعب دخل قلوب بعضهم، فأعلنوا رغبتهم بتطوير العلاقات مع روسيا وإيران!
يستشهد السوريون ليس بفعل جرائم النظام والأسلحة الروسية والإيرانية وحسب، بل حتى في مياه البحار، باحثين عن مساحة أمان؛ فيشيح إخوانهم في الدول العربية الوجه عنهم، ليتحولوا إلى رقم في ملفات مجمل اللاجئين الدوليين، فلا تمنّ عليهم منظمات الجامعة العربية؛ حتى بلجنة إحصاء، توثّق حجم النزيف البشري، وبذلك تخرج الدول العربية من حسابات الحضور، إنسانيًا وسياسيًا وعسكريًا وجغرافيًا، ليصبح بعض منها شاهد زور على حقبة من أهم حقب التاريخ المعاصر، كلبنان والعراق والجزائر وعُمان وفلسطين. بينما بعضها الآخر يغتال ما بقي من كبرياء الأمة، حيث مصر، التي اعتُبرت عامود البيت العربي، تأخذ دور السمسار السياسي، وتتخلى ليس عن حضورها الإقليمي، بل كمسوّغة لمشروعية بشار الأسد شخصيًا وليس كنظام، تحت عنوان إنهاء الأزمة والحفاظ على الدولة، لتتعاطى مع إيران وروسيا كأصدقاء في مواجهة الإرهاب، وتغتال -بتلك المواقف الباهتة- ليس ثورتها التي تابع تفاصيلها السوريون لحظة بلحظة، من خلال الشاشات، وكأنهم هم الذين اعتصموا في ساحة التحرير، بل ربما تساهم بمواقفها باغتيال حلم العرب بربيعهم.
عندما تحولت أنظار العالم واهتماماته، من دعم ثورة الشعب السوري وخلاصه، إلى محاربة الإرهاب، سار العرب في هذا الركب، متجاوزين أدنى حاجات السوريين، وكأن الموضوع (طوشة وضرب حجار)، وليس كيان دولة وشعب له اعتباراته، وعندما بدأ الضغط الدولي للدفع نحو التفاوض، أُعطي النظام شرعيّة تمثيلية، متجاوزين كل أعماله المشينة، وبدا أن العرب ارتاحوا لإعادة تعويمه دوليًا، كمقدمة لدفن الثورة التي على الأرجح أرّقتهم بصوتها العالي، كما أرّقت الاستبداد في إيران وروسيا وغيرهما، وهذا هو السبب الذي -من المرجّح- أنه سيساهم في تفسير تلك المواقف الباهتة.