قضايا المجتمع

الطاعة العمياء عند السلفية الجهادية

تعتمد معظم التنظيمات الراديكالية مبدأً “استالينيًا” في تنفيذ أوامرها؛ لا يسمح بنقاش تلك الأوامر؛ ولا الحوار حول مشروعيتها، ويتعاظم هذا المبدأ أكثر في التنظيمات الدينية المتطرفة، لكونها تعتمد النص الديني من جانب، ومن جانب آخر وجوب طاعة الأمير بعد مبايعته دون نقاش.

تقوم أيديولوجية السلفية الجهادية -في بعض ركائزها- على “التنظير للدماء قبل التّمكين، وللطاعة العمياء بعد التمكين”، فالطاعة في السلفية المعاصرة مقيدة بغير معصية؛ وعليها أدلة يسوقونها من الكتاب والسنة النبوية، إلا أن السلفية الجهادية تعتمد في أيديولوجيتها مفهوم الطاعة الحربية؛ أي: طاعة غير قابلة للنقاش؛ حتى ولو بدت في ظاهرها مخالفة لمقاصد الدين وقواعده الفقهية والأصولية، لذلك نشاهدهم ينفذون الأوامر بلا نقاش؛ لأن النقاش هو نوع من أنواع الجدل، وهو ممنوع عندهم، ويؤدي بصاحبه إلى ردة، وبالتالي؛ يُنَفَذُ فيه حُكم الردة!. ويعللون ذلك أنهم في حالة جهاد وحرب، ومثل هذه المجادلة معطلة لمسيرة الجهاد؛ وتؤدي لفتنة بين إخوة المنهج على حدّ تعبيرهم.

ومَنْ يبايع هذه التنظيمات، عليه طاعة أوامرها طاعًة عمياء؛ وينفذها دون نقاش؛ معتقدًا اعتقادًا جازمًا أنها الصواب المطلق؛ وكل ما سواها باطل، من هنا نفهم المراد من تلك الدورات الشرعية؛ ودورات الاستتابة التي يقيمها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لكل مَنْ يدخل مجتمعه، قادمًا من خارج مناطق سيطرته، أو خالف منهجه؛ فيخضع لامتحان في نهاية كل دورة؛ حتى يتشبّع بأفكار التنظيم؛ ويؤمن بصوابيتها المطلقة.

عندئذ لا يحق له المناقشة فيها؛ أو مخالفة الأوامر الصادرة إليه، ويركّزون في المنتسبين إليهم على فئة عمرية محددة، جلُّهم من الفتية؛ يعتمدون عليهم كثيرًا في عملياتهم القتالية الانغماسية من جهة، وعلى العمليات الانتحارية من جهة أخرى، بعد غسل أدمغتهم؛ لجعلهم يعتقدون أن ما يقومون به أرقى أنواع الجهاد في سبيل الله، ولهم عليه الثواب الأعظم في الجنة من حور عين وما شابه! فكلما ذبحت أكثر في الأرض؛ تمتعت أكثر في السماء!

لابد أن يدعو مَنْ يبايعهم المجتمعَ القريب منه، إلى هذا الاعتقاد؛ حيث يبدأ بأسرته ومن يثق بهم، ثم الهجرة إلى المجتمع الذي تتحقق فيه هذه الأيديولوجيا؛ وهذا ما يفسر لنا توافد الجهاديين، من كل مكان في العالم، إلى الجغرافيا الموجود عليها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

وهو ما دعا إليه أبو الأعلى المودودي في أيديولوجيته؛ وأطّره في كتبه، وهو الذي أنشأ جماعته الإسلامية في منتصف الأربعينيات في باكستان؛ وجعلته السلفية الجهادية برنامجها في مجاهدة فسطاط الكفر.

لابد من التنويه إلى أنّ البيعة لدى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) التي تستوجب الطاعة العمياء، بيعتان لا واحدة:

الأولى: بيعة القتال والهجرة

وتعني الإيمان المطلق بأيديولوجيته، ووجوب الهجرة إلى حيث وجوده الجغرافي، من جهة؛ ومن جهة أخرى، التوجه إلى أي مكان يتطلب الهجرة إليه، والقتال فيه دون مناقشة أو اعتراض أو عصيان؛ فمثل هذا العصيان يوجب بحقه تنفيذ حُكم الردة؛ لأنه نكث بيعته؛ وهذا ما وقع فيه كثير ممن وجد أن الهجرة القتالية غير راغب فيها؛ فعُدّ فعله هذا عصيانًا للأوامر وردّة؛ ما استوجب تنفيذ القصاص بحقه، ذبحًا، أو إعدامًا.

الثانية: بيعة القتال     

هي قتال دون هجرة؛ وهذه بدعة ابتدعها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سورية؛ نتيجة حاجته إلى مقاتلين في صفوفه؛ خص بها بقايا الجيش الحر في المناطق التي استولى التنظيم عليها. إذ أراد هؤلاء المقاتلين البقاء في جبهاتهم؛ لمقاتلة النظام القائم؛ فبايعوه على القتال فحسب، دون إلزامهم بالهجرة إلى مناطق خارج جغرافيتهم، مقابل أن تؤمن لهم السلاح والمال والدعم اللوجستي.

حينما نتحدث عن الطاعة العمياء في أيديولوجية السلفية الجهادية؛ تفاجئنا في ذلك أمثلة، لا يستوعبها الوجدان الإنساني نظرًا لوحشيتها وقسوتها؛ لم تقع تاريخيًا عند جماعة أصولية متطرفة؛ مما يؤكد بعدها الكبير عن الإسلام ورحمته، وسلوك النبي صلى الله عليهم وسلم الذي أرسله الله سبحانه وتعالى رحمًة للعالمين؛ ومن تلك الوقائع المتوحشة في الطاعة العمياء على سبيل المثال لا الحصر، ما وقع في مدينة الرقة، عندما أعدم أحد عناصر التنظيم والدته (وهو وحيدها)، أمام جمعٍ من الناس، بعدما طلبت منه التخلي عن التنظيم، وفق ما أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان، في كانون الثاني/ يناير 2016، ونقل المرصد أن أحد عناصر التنظيم الجهادي، البالغ من العمر20عامًا، قام -قبل أيام- بإبلاغ التنظيم عن والدته؛ “لأنها حرّضته على ترك تنظيم الدولة الإسلامية والهروب معًا خارج الرقة، وحذرته من أن التحالف الدولي سيقتل جميع عناصر التنظيم”. فعمد التنظيم إلى اعتقال السيدة “واتهمها بالردة”. وقام ابنها “بإعدامها بإطلاق النار عليها أمام مئات المواطنين قرب مبنى البريد في مدينة الرقة”، بحسب المرصد.

طبعا هناك أمثلة أخرى لمن قتل أباه ومن قتل أخاه وقصص كثيرة موجود وموثقة على (اليوتيوب) لمن أراد الاطلاع عليها، تبين مقدار الطاعة العمياء التي تستطيع أيديولوجية السلفية الجهادية غرسها في عقول منتسبيها؛ فضلًا عن قيامهم بالعمليات الانتحارية، وقتل الآخرين من خلال تفخيخ أنفسهم بأحزمة ناسفة، أو قيادتهم لسيارات مفخخة.

ما نحتاجه، ونحن نقوم بتفكيك الخطاب الأيديولوجي للسلفية الجهادية، إلى وعي عاقل بالنص الديني التراثي (فتاوى وأحكام الفقهاء) الذي تسلل إلى العقل الإسلامي وعشش فيه على أنه من صلب الدين؛ والدين منه براء؛ وما أحاديث وجوب البيعة؛ وأنّ مَنْ مات وليس فيه عنقه بيعة لخليفة أو أمير مات ميتًة جاهلية وغيرها كثير إلى مراجعة حقيقية لتلك الفتاوى والآثار، لما سببته من هدر دماءٍ بريئة؛ وأدت إلى فوضى عارمة؛ وأنّ خلط الرغبة في الوصول إلى السلطة بالنص الديني مسيء لطهورية النص، ومسيء للدين نفسه، فالرسالات السماوية تنزّلت رحمًة للعالمين لا لشقائهم؛ ومن لا يبني جنة الأرض لا يستحق جنة السماء.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق