تحولت ورشة عمل مصرية، عُقدت في واشنطن، وتناولت العلاقة بين الدين والدولة، وتعريف الهوية المصرية، إلى “تسونامي”، بين أقطاب المعارضة المصرية، واشتعلت عاصفة من الانتقادات والهجمات الشرسة؛ بسبب ما سمي بمبادرة “مصر.. وطن للجميع”، أو ما أطلق عليه الإعلاميون والناشطون السياسيون ومستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي “مبادرة واشنطن”، دفعت القائمين عليها لإنكارها، أولًا بوصفها تسريبًا غير صحيح، ويحتوي على مغالطات، ثم ما لبث القائمون على المبادرة أن أعلنوا مبادرتهم رسميًا، بعد إجراء تعديلات عليها.
هذه المبادرة التي تضمنت عشرة بنود، أشعلت النار؛ لأنها -وفقاً للمنتقدين- مسّت الهوية العربية والإسلامية للشعب المصري، وعمدت إلى “تعرية” مصر من عروبتها وإسلامها، وقد نصت المسودة المُسرّبة من المبادرة -في بندها الثاني- على أن “الهوية المصرية الجامعة بطبقاتها المتنوعة هي العامل المشترك الموحد لعناصر الشعب المصري”، دون أي ذكر للعروبة والإسلام.
فيما نص البند الثالث على أن “السيادة والسلطة والشرعية من الشعب وللشعب وحده، ويحكم العلاقة بين قواه المختلفة دستور مدني، والمساواة التامة بين كل المواطنين”، فيما دعا البند الرابع إلى “صياغة دستور مدني ينص صراحة على عدم تدخل الدولة في المؤسسات الدينية أو العكس”، أما البند الخامس، فقد كان الأكثر جدلًا إذ نص على أن “الدولة لا هوية ولا مرجعية لها إلا مدنيتها. ولا مؤسسات دينية تابعة لها، بحيث لا يتدخل الدين في الدولة، ولا تتدخل الدولة في الدين”.
بعد ذلك جاء الإعلان الرسمي عن المبادرة مع تعديلات ليست جوهرية، أبقت على البنود: الثاني والثالث والرابع، كما هي، مع تعديل البند الخامس ليصبح: “عدم تدخل الدولة في الدين وعدم تدخل المؤسسات والمنظمات الدينية في الدولة، سواء كانت مثل هذه المؤسسات والمنظمات رسمية أم غير رسمية، مع تجريم استغلال الدين بغرض الحصول على أي مكاسب سياسية أو حزبية، ولا تتدخل الدولة في حق الفرد في حرية العبادة وتقف على مسافة واحدة من جميع الأديان”.
“مبادرة واشنطن” لم تنبت في الفراغ؛ فقد أعلن مصدر مقرب من القائمين على المشروع أن ورشة “واشنطن” ضمن مجموعة من الورش والاجتماعات التي عُقدت في بعض الدول المختلفة، منها تركيا وأميركا وقطر وبلدان في أوروبا، خلال الفترة الأخيرة، بمشاركة عدد كبير من القوى والشخصيات الوطنية. وأن بعض القوى المدنية، دعت إلى تكرار تجربة حركة النهضة التونسية، بفصل الدين عن الدولة.
الأسئلة المهمة التي طرحها المصريون هي: كيف تم إعداد المبادرة، ومن يقف وراءها؟ وما اللقاءات التي تمت في باريس وعواصم أخرى ومهدت للسفر إلى واشنطن؟ وهل ترتبط “ورشة واشنطن” التي صدرت عنها المبادرة بجهات أجنبية، وهل تعامل بعض المشاركين على أن الولايات المتحدة تُعدّ سيناريو جديدًا؛ لتغيير الأوضاع في القاهرة، على غرار اجتماعات البرادعي وآخرين في واشنطن قبل 30 تموز/ يوليو 2013؟
بداية القصة كانت من باريس في كانون أول/يناير الماضي، عندما تم توجيه الدعوة لبعض الناشطين المصريين من أجل مناقشة “الربيع العربي”، وتقول المحامية والناشطة السياسية المعارضة، نيفين ملك، لـ (جيرون): إنها شاركت في اجتماع باريس من أجل “مناقشة الأوضاع في مصر والعالم العربي، في ضوء ثورة البوعزيزي في تونس، وثورة يناير في مصر، والثورات الأخرى في ليبيا واليمن وسورية، وتم الحديث للمرة الأولى عن مؤتمر أو ورشة عمل في أميركا لمناقشة الأوضاع في مصر”.
وتؤكد ملك أن ناشطًا في “حركة غربة”، هو محمد إسماعيل، وجه لها الدعوة للمشاركة في هذه الورشة، وأنها تلقت الدعوة بصدر رحب، لأنهم قالوا إن الورشة “مفتوحة لكل الأطراف؛ لمناقشة كل الأوضاع المتعلقة بمصر، بدون استثناء أي تيار من التيارات، وعلى هذا الأساس وافقت على الاشتراك في الورشة؛ لأنني مع أي جهد ينحاز للناس وضد الانقلاب، لكنني اعتذرت لهم عن السفر إلى واشنطن، فتم الاتفاق على أن تكون المشاركة عبر (سكايب)، وطلبت أن أتحدث عن الاختفاء القسري، لأن هذه الظاهرة تحولت إلى كارثة حقيقية في مصر”.
وتضيف: “ما فهمته أنهم كانوا يريدون تجميع الصفوف وإنشاء مظلة ضد الانقلاب، ولذلك قلت لهم: إننا نبارك أي جهد ضد الانقلاب، إلا أن الأمور أخذت -بعد ذلك- بعدًا آخر لم أتوقعه، وصدور وثيقة عن الورشة هو جهد يُلقي حجرًا في المياه الراكدة، وأعتقد أن الموضوع أخذ أكبر من حجمه، بسبب المكان، لأن الورشة عُقدت في أميركا، فتخيل بعض الناس أن الأميركيين سيزيحون السيسي، ويضعون هذه المجموعة مكانه”.
وعما إذا استغل منظمو الورشة بعض الناشطين قالت الملك “حدثت بعض الأشياء دفعتني إلى القلق، ما جعلني أضع علامات استفهام، وأثار عندي هواجس حتى قبل أن تصدر الوثيقة”، وأضافت: “لم يكن مطروحًا أن نتحدث عن الهوية، فنحن اتفقنا أن نتحدث عن الوضع العام، وعن القواسم التي تجمعنا وعن الملفات الشائكة محل نظر، مثل ملف المعتقلين، ولم يكن هناك أي كلام عن الهوية، ولم يكن من المفروض أن نتحدث في أي شيء سوى كيف نتخلص من الانقلاب، فليس الوقت ملائمًا لنناقش صراع الهوية، ولم تصلني مسودة وثيقة المبادرة قبل إعلانها، ولم تُعرض علي، ولا أعرف لماذا أضافوا اسمي”.
ووجهت سهام نقدها وقالت: “محاولة الزج بالصراع على الهوية ليست قضيتي، أنا من حزب الوسط، حزب مدني ذو خلفية حضارية إسلامية، مثل ملايين المصريين والعرب، وليس لدي مشكلة مع الهوية والثقافة الإسلامية، فهي جزء من مُكوّني، ولا أستطيع أن أتبرأ منها مهما كان، الثقافة الإسلامية متغلغلة في تكويني كعنصر موجود أتعايش معها وأعيشها من زمن، ولا مشكلة لي مع الهوية الإسلامية، لأنها جزء من مكوني كإنسان، صراعي الوحيد مع الدكتاتورية العسكرية التي تحكمنا، ويحكمنا الغرب من خلالها، وهذا لب الاستعمار الذي يحكمنا داخليًا وخارجيًا والتبعية للدول الكبيرة”.
وأضافت: “إن طرح صراع الهوية، يثير هاجسَ أن من يثيرها لا يتحرك بعشوائية، بل لتفتيت الصف، وليس تجميعه، والهوية العربية والإسلامية ليست مجال صراع، بل مجال اتفاق، وهذه المبادرة لا تُمثّل إلا الأشخاص الموقعين عليها”.
ورشة أميركا التي انبثقت عنها “مبادرة واشنطن”، تحولت إلى أزمة بدل أن تحل الأزمة، وفرقت صفوف المصريين بدل أن تلم شملهم، وأعطت الجنرالات الانقلابيين في مصر ذخيرة، لم يكونوا يحلمون بها ضد معارضيهم.