هموم ثقافية

من بدوي الجبل ونزار قباني إلى” شيخ الجبل” ربيع مؤجل

حين عُثر على الشاعر السوري الكبير “بدوي الجبل” مرميًا في أحد فروع نهر بردى، لم يكن كثير من المثقفين السوريين يدرك أن مرحلة كالحة في تاريخ البلاد قد بدأت، إلا أن “حافظ الأسد” كان يدرك أن تمريغ وجوه المثقفين بوحول فرع نهر، جففته شمس صيف، سيؤدي إلى عقود من خريف، تتساقط معه أوراق الأصالة، وقحط سيؤجل الربيع طويلًا.

وحين توفي الشاعر السوري نزار قباني، شريك الشاعر البدوي في “الاغتراب والمنفى”، والذي وصفه بأنه السيف اليماني الوحيد الذي مازال معلقًا على جدار الشعر العربي، لم يكن هتاف “عدد من الشبيحة” في جنازته، قبيل وصولها إلى مقبرة الباب الصغير في دمشق، “بالروح بالدم نفديك يا حافظ ” ردًا على هتاف بعض الشبان المشيعين: “الشام شامنا ونزار نزارنا”، إلا إثباتًا للرؤية التي عبرت عنها ابنته الصغرى لوفد السفارة السورية في لندن، الذي جاء للتعزية: قتلتم أمي، واليوم أتيتم؛ لتسرقوا أبي.

بدوي الجبل “أحمد سليمان الأحمد” ابن قرية “السلاطة” القريبة من القرداحة، لم يعرف انتماء لغير وطن يبنيه الوطنيون الكبار، يصعب عليه التخيل بأن طريقة العصابة التي اختطفته ورمت به مكبلًا في أحد فروع نهر بردى، ستكون نهجًا للرعاع وحثالة القوم من “الشبيحة” والمرتزقة التي سترمي بالمثقفين في أنهار أخرى من البلاد.

(مواقف بدوي الجبل من “أبطال هزيمة حزيران” والتي كان وزير الدفاع “حافظ الأسد” أحد رموزها البارزة.. كانت الدافع لقيام عدد من الشبيحة باختطافه وتعذيبه والقيام بضربه على رأسه بحديدة أريد منها أن تكون تأديبًا حادًا، إلا انها تحولت سببًا غير مباشر لوفاته فبقي يعاني من أمراض النطق والمشي وباقي النشاطات الجسدية، حتى توفي عام 1981).

قصيدة “بدعة الذل ” التي صاغها ” بدوي الجبل” شكلت حقيقة لا يرغب شبيحة ذلك الزمن بأن تنتشر وأن تتكرر:

“بِدعة الذلِ حين لا يذكر في الشام أنه إنسان

بِدعة الذلِ أن يصاغ من الفرد إله مهيمن ديّان

أيها الحاكمون ما ضاعت النفوس

أن ترفع الأصنام وتعبد الأوثان

 

نحن أسرى وحين ضيم حمانا

كاد يقضي من حزنه المأسور

محنة العرب أمة لم تهادن

فاتحيها وحاكم مأجور”

 

هذه الأبيات التي أطلقها بدوي الجبل، حكمها العقل المثقف بتسليطه الضوء على واقع مرير، كانت كافية -بنظر أولئك الشبيحة- لارتكاب فعلتهم بحقه.

نزار قباني، وعلى الرغم من أنه لم يهاجم النظام صراحة(!!!)، سوى في قصيدته “بلقيس” التي كتبها بعيد وفاة زوجته في تفجير السفارة العراقية، والتي اتهم النظام بالقيام بها، إلا أن الحالة التي شكلها، والثقافة الوطنية الأصيلة التي ميزت شعره، كانت نقيضًا لثقافة ثالوث “العسكر والأمن والشبيحة” الذي حكم البلاد. لكن حقدهم عليه لا يكاد يخفى على أحد، مع ذكرهم له في بعض المناسبات على مضض، لعدم قدرتهم على تجاوز قامته التي أثبتت حضورًا سوريًا وعربيًا ودوليًا، وأقل ما كان يفعله كتبة النظام وأذنابه هو تحجيم قامته واختصار شعره الوطني والدمشقي كله بالمجون، وبأنه شاعر غزليات، بل وأبعد من ذلك استخدامهم مفردات اليسار، في اتهامه بأنه “سليل مجتمع دمشقي بورجوازي رجعي”، وما إلى ذلك من الألفاظ التي تصدر من فروع أمن، يتبع لها هؤلاء الكتبة المأجورون.

نزار قباني الذي لم يعد إلى دمشق، إلا ليدفن فيها، كان يرد على مثل هؤلاء بقوله: “بحثت طويلًا عن المتنبي فلم أر من عزة النفس إلا الغبار. بحثت عن الكبرياء طويلًا ولكنني لم أشاهد بعصر المماليك إلا الصغار الصغار”،  ومن هؤلاء لا شك مندوب النظام لدى الأمم المتحدة الذي بدأ كلمة له في مجلس الأمن، مطلع عام 2012، وبكل وقاحة، بأبيات من قصيدة لنزار قباني عن دمشق؛ تتحدث عن الحرية وخنق حرية التعبير، وهو تشبيح سياسي، وانعكاس لسلوك شبيحة المخابرات، ويدلل على طريقة تفكير النظام الذي كان اتخذ قرارًا في اليوم التالي، لدفن الشاعر، ومن  خلال وزير إعلامه آنذاك، بالتعتيم على نزار قباني؛ حيث لم تأت وسائل الإعلام آنذاك على ذكر اسمه على الرغم من أن عشرات وسائل الاعلام العربية والدولية استمرت -لبضعة أسابيع- ببث برامج ثقافية خاصة عن مسيرته، وشعره الذي غناه فنانون عربًا كبارًا .

إذا كانت حادثة الاعتداء على بدوي الجبل، ووفاته بعدها بسنوات نتيجة لها، قد شكلت بداية لاغتيال العقل المثقف، والقامة الوطنية القيمية الجامعة على إيدي ” الشبيحة الغرائزيين”، فإن ما فعلوه -بالنسبة للثقافة التي يجسدها نزار قباني- لا يقل عنفًا عن الاغتيال، وهو التهميش والعزل والإلغاء وتشويه الصورة، طوال حياته الثقافية والسياسية، كغيره من كبار القامات الوطنية، وهو عنوان سار عليه النظام في إبادة الثقافة الوطنية، وتعويم ثقافة التشبيح التي قامت بتعويم كل شعر رديء لمخبر، ولأنصاف المثقفين والشعراء المأجورين الذين احتلوا المنابر الثقافية والإعلامية في سورية، وعملوا على إلغاء وتشويه تلك القامات، وقد تعمقت بإجهاز هؤلاء المتخلفين، من خلال غزوتهم الجاهلية في الثمانينيات، وإلحاق الهزيمة بالوطن باسم هزيمة الأخوان المسلمين، فبات ثالوث “العسكر والأمن والشبيح ” بديلًا وصورة لنظام تحكمه الغرائز، وينفي حسها العنفي أي دور للثقافة وأعلامها على صعيد الوطن، ويهبط بالمثل العليا الثقافية إلى جعلها قيمة مادية رخيصة، ومقابل إزاحة هذه الثقافة الوطنية ورموزها الكبار.

وثمانينيات القرن الماضي شكلت نقلة خطرة، كانت الأكثر تأثيرًا على صعيد البلاد بمجملها، وعلى صعيد الثقافة بشكل خاص، أهم سماتها قتل الثقافة الوطنية من خلال تهميش وتحجيم وإلغاء رموزها وإحكام الترهيب ودورة العنف في المجتمع، وكان أول المستهدفين الكتاب والشعراء الكبار؛ لوقوفهم ضد “عملية التطييف” التي كان بدأها ” حافظ الأسد” في الجيش منذ الستينات، وعمقها في السبعينيات، وأنجزها وجعلها نهجًا له، من خلال شخصنة وتوثين ذاته، وتهميش حتى حزب البعث، بوصفه حزبًا قوميًا غير طائفي ، وقيامه بتأسيس كيان ” تشبيح ” من الرعاع والحثالة من العاملين في وظائف الدولة وغيرها، يتبع لأجهزة المخابرات، بالتوازي مع الجيش الذي تغربل، ولا سيما قادته وضباطه طائفيًا .

ثقافة التشبيح ” بانقضاضها على كل قامة وطنيةـ في مختلف مناحي الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية في البلاد، بالنفي أو الاعتقال أو القتل، كان لها الدور الأبرز في الانتقال السلس للسلطة إلى زعيم التشبيح الابن، واستبدلت معها الوطنية -بشكل مطلق- بالطائفية، واستبدلت العروبة بمنتجها الثقافي الوطني الأشمل والأوسع، حل مكانها ” ثقافة” غريبة تستند على زاوية من جحور مظلمة تتقوقع في مغاور ” قم الإيرانية”، ذات الأحلام الفارسية الخمينية في تصدير ثورة استلاب المجتمعات العربية.

” بدوي الجبل” و”نزار قباني” خرجا من قميص المكان والانتماء الطائفي الضيق، ودخلا روع الحياة الثقافية العربية الواسعة، بالانتماء للوطن والقيم الإنسانية المشتركة، وتبوأا مكانة في الشعر العربي، وحظيا بحب وإعجاب النقاد والأدب وأخذا مكانتهما بين عمالقة شعراء العصر قد يحجبهما ” شبيح الجبل” لحين، لكن وفي الرؤية الثقافية -على الأقل- لا بد من التساؤل: هل كان أحد ليسمع باسم الحاكم زمن المتنبي لولا هذا الشاعر العربي، وهل كان أحد سمع باسم ابن حجاج، لولا أن المتنبي هجاه؟!

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق