أدب وفنون

غياث مطر/ غاندي الصغير

بتنظيم مميز من مؤسسة موزييك، سورية الخيرة، وفي مقر منظمة العفو الدولية (الأمنيستي) في لندن، تم عرض الفيلم الوثائقي غاندي الصغير، للمخرج السوري– الأميركي، سام قاضي.

الفليم الحائز على عديد من الجوائز الدولية، يجول العالم حاملًا حكاية غياث مطر ببساطتها الفريدة، ورمزيتها الباهرة. وقد تم تصويره في داريا وتركيا والولايات المتحدة.

تكنيك الفيلم يعتمد على شهادات مجموعة من الناشطين والناشطات، ممن عايشوا الثورة في بدايتها وعرفوا غياث عن قرب، إضافة إلى شهادة من السفير الأميركي في دمشق، الذي كان له مواقف إشكالية في بداية الثورة، ابتداء من زيارته إلى داريا، مع خمسة سفراء غربيين؛ للعزاء في مأتم غياث، وليس انتهاء بزيارته إلى حماة، بصحبة السفير الفرنسي؛ للاطلاع -مباشرة- على وقائع ما يحصل؛ ما أوصل رسالة ملتبسة بدعم رسمي، للحراك الشعبي المتفجر في بدايته.

الفيلم يقدم مشاهد بصرية مسجلة بكاميرات الناشطين؛ تلك الكاميرات المرتعشة في المظاهرات الأولى، ومعها يتقاسم الرواة الحكاية من البداية.

 

%d8%ba%d8%a7%d9%86%d8%af%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d8%ba%d9%8a%d8%b1-2

 

لم تبدأ حكاية غياث مطر وحكاية الثورة، من الأيام الاولى لآذار -مارس 2011، بل حتى لتلك الإرهاصات التي حدثت في عام 2003، وهي امتداد لتاريخ عميق من الرفض كان محكومًا عليها بالصمت.

التقطيع المتوازن واختيار اللغة العقلية والتسلسل المنطقي والابتعاد عن الانفعال الفني ودمج الصور وتحسين جودتها واللقطات الثابتة للناشطين، مع ترجمة متميزة، حملت –بهدوء- رسالة الفيلم للمشاهد الغربي الذي حضر بكثافة في لندن، كما في الولايات المتحدة.

غياث مطر، مع نخبة من شبيبة المدينة المتشربة بأفكار الكفاح السلمي، تعود جذورها إلى مجموعة كبيرة من النخب المثقفة في داريا اعتمدت أفكار جودت سعيد، ومهاتما غاندي، ومارتن لوثر كينغ؛ كان اندلاع الثورة فرصتهم التاريخية لتجربة تلك الأفكار التي تقول: إنه يمكن مواجهة العنف الشرس بالجسد الأعزل والكلمة الحرة.

كانوا يبتكرون في كل جمعة فكرة جديدة؛ لمواجهة رجال الأمن والشبيحة، كأن يرصفوا الفاصل بين المظاهرات وكتائب الأمن بزجاجات ماء، تربط كل زجاجة بوردة ويقف –بشجاعة- من يصرخ بأنهم أخوة وأبناء وطن واحد، ويرجوهم ألا يطلقوا النار؛ لكن ضابط الأمن يقوم بتحذير عناصره من أن الزجاجات مسمومة؛ فيفتحون بعضها ويشربون أمامهم داعيين إياهم أن يسمحوا للمظاهرات بالمرور، لدرجة أن إصرارهم وشجاعتهم أربكت حتى عناصر الأمن الذين وجدوا أمامهم متظاهرين سلميين، منظمين هاتفين بهدوء، وليس بينهم لا مخربين ولا إرهابين ولا مسلحين كما قيل لهم.

كانت بصمات يحيى ومعن شربجي وغياث مطر -قادة الصف الأول من شباب مجموعة الحراك السلمي- تتضح وتتجلى في داريا؛ حيث كانوا يرون “في الثورة مناسبة “لنتغير نحن أيضًا، وأن الورود التي يحملها المتظاهرون لا تؤثر على الجنود فحسب، بل تؤثر فيمن يحملها وتغيره.

كانت ردود النظام أن اعتقل إسلام الدباس، وهو يحاول أن يقدم الورود والماء باليد، واختطاف معن شربجي وإلقاء القبض على غياث مطر ويحيى شربجي، بكمين محكم؛ ليعود غياث بعد ثلاثة أيام جثة مشوهة مع جرح كبير في خاصرته، وتمثيل حاقد بالجسد الذي تعرض لأهوال تعذيب وحشي.

يتحدث الناشطون عن حجم الألم للخسارة الفادحة، فرد النظام واضح لا لبس فيه: ماء وورد منكم، يقابله دم ودمار منا. وعلى الرغم من ذلك، ظلت درايا صامدة على مبدأ شبابها بأن لا تنجر إلى العنف بمثله، لكن المظاهرات السلمية العارية -أمام استسهال واسترخاص القتل- صارت شيئًا من العبث.

بدأت الانشقاقات الأولى من جنود الجيش في الشهر السادس من الثورة، وأصبحت المظاهرات تُحمى من عناصر الجيش المنشقين، وكانت تنسيقية داريا ومجلسها المحلي تجربة رائدة، بإخضاع عناصر الجيش الحر -وهم من أهالي المدينة- لسلطة مدنيّة منتخبة في المدينة.

وحصل أن تفاوضت قيادات المدينة على إخراج عناصر الجيش الحر المسلحين من المدينة؛ لحمايتها من القصف والمداهمات، فارتكبت مجزرة داريا الفارقة “شاتيلا السورية”. 700 مدني قتلوا في ثلاثة أيام؛ والتلفزيون السوري يغطي العملية بإجراء مقابلات مع الجرحى؛ لتمجيد الجيش وإدانة المسلحين.

عاد أهلها ليدفنوا شهداءهم، ويرابطوا على أسوارها، لتدخل داريا في حصارها، وكلما اشتد عليها الخناق تتجوهر وترتقي.

كل إطلالة للجولاني، للمحيسني، للعرعور، للفصائل الجهادية المتقاتلة كانت تطيل عمر النظام! وكل صورة من داريا كانت تقرب محاكمته وزواله؛ لذلك سعى النظام -بكل ما لديه من قوة- لتدمير وسحق داريا التي كلفته كثيرًا من هيبته وجنوده وعتاده، ولولا التدخل الروسي لما استطاع -يومًا- أن يقهرها.

ولأنها سوريّة، ولأنها وطنية، ولأنها أخلاقية، ولأنها روح الثورة؛ دفعت داريا الثمن وحيدة تمامًا.

 

الفيلم أُنجز أواخر عام 2014، واحتاج لسنة من العمل المتواصل، والصعوبات الحقيقية التي واجهت مخرج العمل، بسبب عدم استطاعته القدوم بنفسه إلى داريا، لكن وسائل التواصل الحديثة وتأثيرها على عالم الوثائقيات، نجدها متجسدة في هذا الفيلم فعلًا؛ فالثورة السورية غيّرت المعايير المهنية الأكثر حصافة بالعالم؛ فبعد أن كانت متطلبات الجودة، وتأكيدات المصدر، هي الحاسم في أمر تبني الفضائيات تقريرًا ما؛ وجد العالم نفسه أمام السور الحديدي لنظام قرر إن من يحمل الكاميرا هو أخطر ممن يحمل السلاح، فكانت الصور المهتزة المرتعشة في الأيادي النابضة المرتجفة في المظاهرات الأولى، هي المصدر الوحيد لتوثيق ما يجري داخل أسوار الجمهورية الأسدية.

يعتمد سام قاضي تقنية بالغة الدقة والتوثيق، تحول شهادات الشهود من ناشطين وناشطات إلى مرئيات من الارشيف الكبير لدرايا، يختار الحكاية المفهومة ويبسطها، وهو يعي أن مشاهده سيكون العقل الغربي، فيتقن توصيل الرسالة إليه.

ومن هنا كان حضور السفير فورد شاهدَ عيان تاريخي على ما حصل.

تابعت درايا صمودها الأسطوري، تهدم أكثر من ثلاثة أرباعها، وبقي من سكانها بضعة آلالف؛ لينتهي بهم الأمر باتفاق الخروج النهائي من المدينة إلى الشمال، فيستبيحها جراد التعفيش وتدنسها -في عيد الأضحى- صلاة شيطانية من سفاح دمشق.

فيلم غاندي الصغير يكذّب كل الروايات المسمومة، وهنا يصدح السؤال في راهنية الزمن: من سيبقى؟ من ستكنسه ريح التاريخ بعد أن تتوقف الحرب ويرحل الطغاة.

شهادات بهذه القيمة وشخصيات بهذه النصاعة هي خيارنا الأخير؛ لتماثل قيمها الأولى.

يقول أحد المشاركين في الفيلم:” إن تكلفة الثورة السلمية -مهما بلغت- كانت لتكون أقل بكثير من السلاح، لو بقي غياث على قيد الحياة لربما أحدث فرقًا”.

يطرح الفيلم أسئلة جوهرية -أيضًا- هل كان غاندي نفسه -لو كان سوريًّا- سيصر على استنزاف القادة السلميين، وتلقيم فم الموت وآلة العنف الرهيبة بأجسادهم للأبد؟ إلى أي حد يستطيع أن يصمد شعب أعزل أمام همجية قمعية لا ترى إلا القوة والسحق والحرق وسيلة ناجعة لإخماد أي احتجاج، وهي مدعومة ببيئة حاضنة، مبررة ومستهترة، مع حماية دولية من القصاص؟

عرف المهاتما غاندي جزءًا من عقلية الاحتلال الإنكليزي، وعاش ودرس وتثقف بكتبه وقوانينه وتشريعاته، كانت حركته السلمية الذكية جزءًا من معركة أكبر، وتغقل كتب التاريخ أنه بالتوازي مع معركة غاندي السلمية، كانت هناك قوات حركة نشطة للكفاح المسلح أيضًا، لكن الغاندية يجب ان لا تكون انتحارية؛ فلنتخيل -مثلًا- أن الشعب الكوري الشمالي قرر أن ينزل إلى الشوارع للاحتجاج، ماذا سيكون مصيره؟

النظام السوري هو نظام هجين من مكر المافيات، وخبث الطغاة وعنف الدكتاتورية، نعم. جرّ الثورة إلى ملعبه الأثير، ولكن لم يكن هناك أي خيار.

 

فيلم غاندي الصغير في جوهره، إن كان يؤرخ لعظمة الحراك الثوري وأيقوناته، ويزيل التشويش عن جوهر الثورة السورية، فإنه -أيضًا- يعيد طرح بديهيات إنسانية في عالم أجمع حول رمزية غاندي نفسه، وحول أن قضايا الإنسانية يجب أن تكال بمكيال واحد، وحول أحقية الشعوب في التخلص من الاستبداد بلغتها الخاصة، وأن قدرة البشر العاديين ألا يكونوا أبطالًا أسطوريين، وأن يكون لغضبهم حدودًا في التحمل، وأن يكون المنجي الوحيد من الحيف والموت والقتل والجريمة، هي عدالة واحدة ترفع عن عينيها العصبة.

خمسة وتسعون دقيقة زمن الفيلم، تمضي لتحرر ست سنوات من التشويه والتشويش.

تنقل تلك الأصوات التي تحررت من الخوف إلى العالم أجمع، وتجوب المدن المشغولة بضجيجها؛ البلاد المشغولة بهمومها تحاول أن تهمس أن هناك في بلد اسمه سورية وبلدة اسمها داريا، توجد صرخة لإنسان أشعل العالمُ حربًا كونية؛ لإسكاتها والتشويش عليها. داريا فضحية أخلاقية بوجه هذا العصر، وشهداء الثورة السلمية -غياث ورفاقه- هم حجتنا على التاريخ.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق