جاء التدخل الروسي في سورية، مع نهاية أيلول/ سبتمبر من العام الماضي، بذرائع محاربة الإرهاب وضرب مواقع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، في شمال وشمال شرقي البلاد، بعد أن أخفق التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في ذلك، بحسب موسكو، إلا أن الشهادات الحية لناشطين ميدانيين داخل سورية، إضافةً إلى تقارير صحفية غربية، وتصريحات ديبلوماسية عديدة لجهات إقليمية دولية أكدت -جميعها- أن معظم الضربات الجوية لسلاح الجو الروسي استهدفت مواقع المعارضة المسلحة “الجيش الحر”، دون أن تتعرض لمواقع التنظيم؛ ما ساعد الأخير على التمدد في كثير من المناطق.
موقف المعارضة السورية، ممثلة بالائتلاف والفصائل المقاتلة على الأرض، كان واضحًا منذ اليوم الأول، حيث عدّت محاربة الإرهاب التي تذرعت بها موسكو مجرد حجج واهية، لاستباحة الأراضي السورية، وهو ما حولها إلى قوة احتلال تدعم نظام الأسد فاقد الشرعية؛ ما ساعد الأخير على استعادة التوازن، وهذه الرؤية أيدتها تصريحات روسية عديدة، منها تصريح الجنرال أندريه كارتابلوف من هيئة أركان الجيش الروسي، في تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي، قال فيه: “إن التدخل الروسي غير الأوضاع جذريًا على الأرض، وبدأت قوات النظام تحرز تقدمًا ملحوظًا على طول خط الجبهة تحت غطاء جوي روسي، بينما يهرب مقاتلو داعش من مواقعهم، بعد أن فقدوا معنوياتهم بفعل الضربات الجوية الروسية”.
من جهتهم نفى ناشطون ميدانيون ذلك نفيًا قاطعًا، مؤكدين أن المقاتلات الروسية لم تستهدف أيًا من مواقع التنظيم، في حين قصفت -بشكلٍ ممنهج- المناطق المحررة، الخاضعة لسيطرة مقاتلي الجيش الحر في إدلب وحلب وحمص والغوطة وغيرها؛ ما أدى إلى سقوط مئات الضحايا، إضافةً إلى دمار هائل طال معظم نواحي الحياة المدنية في تلك المناطق، ولا سيما القطاع الطبي، حيث أفادت بعض التقارير بخروج أكثر من 57 مركزًا طبيًا -في إدلب وحدها- عن الخدمة نتيجة القصف الجوي المشترك من النظام والروس، فيما أشارت إحصاءات أخرى إلى أن نحو 70 بالمئة من المستشفيات والنقاط الطبية بحكم المدمرة للسبب نفسه.
التأكيدات بشأن استهداف سلاح الجو الروسي مواقع الجيش الحر، لم تأتِ من الناشطين، أو عبر تقارير حقوقية فحسب، فقد أشار عدد من التصريحات الديبلوماسية الإقليمية والدولية إلى أن موسكو غالبًا ما استهدفت مناطق المعارضة المسلحة، دعمًا لموقف النظام السوري، دون أي تركيز في ما يخص قصف مواقع التنظيم، ففي تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي، طالبت الخارجية الفرنسية بضمانات بشأن الهدف الحقيقي للضربات الجوية الروسية، وتحدثت عن إشارات تفيد بأن تلك الضربات لم تستهدف تنظيم الدولة الإسلامية.
في السياق نفسه، قال وزير الخارجية البريطاني السابق، فيليب هاموند، في الفترة نفسها: “لقد سبق وحذرت المملكة المتحدة من أن معظم الضربات الجوية الروسية في سورية، تستهدف فصائل المعارضة المسلحة المعتدلة، وتساعد، في الواقع، تنظيم الدولة الإسلامية على التمدد، وذلك؛ على عكس ما تدعيه روسيا، بل إن الدعم الجوي الروسي لقوات نظام الأسد، خلال الأسبوعين الأخيرين، أفسح المجال أمام التنظيم للتمدد وكسب مناطق جديدة”، مؤكدًا أن نحو 75 بالمئة من الضربات الحوية الروسية استهدفت مجموعات، يجب أن تكون جزءًا من الحل في سورية على حد تعبيره.
من جهتها السعودية -أيضًا- كان لها بعض التصريحات في هذا المجال؛ إذ طالب مندوب الرياض في الأمم المتحدة، في أكتوبر من العام الماضي، “بوقف الغارات الروسية التي تستهدف المدنيين في سورية، وأدت لمقتل العشرات بينهم نساء وأطفال، معربًا عن قلق بلاده من العمليات الروسية العسكرية في سورية، لافتًا إلى أنه لا يمكن للدول أن تزعم قتال إرهاب تنظيم داعش، بينما تساند إرهاب النظام السوري”.
مسألة استهداف موسكو لمواقع المعارضة المسلحة، دعمًا للنظام السوري، وتجاهلها لتحركات التنظيم، تبدو الآن قضية لا تحتاج إلى تحقيق، بقدر ما تحتاج إلى تحركات دولية عاجلة؛ لوقف استهداف المناطق المدنية، ومرافق الحياة داخل المناطق الخارجة عن سيطرة الأول، فكيف يمكن فهم أن يدعي طرف ما محاربة الإرهاب، ويترك أرتال التنظيم تتحرك من أقصى شمال شرقي البلاد، إلى منطقة القلمون بريف العاصمة دمشق، مكشوفةً في البوادي دون أن يستهدفها أحد، في حين تستهدف مقاتلاته الحربية قوافل المساعدات الأممية في طريقها إلى المناطق المحاصرة، وهو ما حصل أخيرًا، ولم تنكره موسكو، بل ساقت عديد الذرائع؛ لتبرير جريمةٍ من غير الممكن تبريرها، أخلاقيًا وإنسانيًا على الأقل.