من أفانين الطغيان الحاكم في سوريّة، على امتداد ما يقارب نصف قرن، أنه خَصَى الحياة الثقافية في البلد بمكر وتخطيط وحقد، على الرغم من كثرة المثقّفين فيه، ورفعة إبداعهم، وعمقه؛ أو ربّما كان بسببٍ من ذلك.
فلم تمت الحياة الثقافية في سورية، ولم تحيا.
لم تُغلق دُور النشر الخاصة بالشمع الأحمر، ولا أتيح لأبوابها ضوء أخضر لتُشرع.
لم يهنأ الكتّاب في البلد؛ حتى بالهوامش الضيّقة التي للكتّاب في بلدان عربية أخرى، ولم يُحرموا كلّ هامش ممكن، إذ ظلَّ حيّزٌ ما للمغامرة ولكنْ على مسؤولية الكاتب الشخصيّة، والباهظة دون شك.
لم تخلُ العاصمة دمشق -كما حال المدن السوريّة كافة- من المقاهي التي يرتادها الكتاب والمثقفون بعامة، غير أن روّادها أولئك، لم يكونوا أسرى مبدأ التقيّة والمداراة، ولا كانوا أحرارًا طلقاء في التعبير الجهير، لأن المأجورين “على القطعة” ينتشرون كالوباء بين الزبائن.
لم تمثّل الصحف الرسميّة (الثلاث في واحدة) ما يُعرف في العالم بالسلطة الرابعة، ولا هي خلت بالمطلق مما يمنح ورقها سمة جريدة. أما الصحف الخاصة، فظهرت واحدة كسيرة الجناح، والأخرى كُسِرتْ أصابعُ رئيس تحريرها، علي فرزات، بُعيد ظهورها.
لم تُلغَ المنتديات والملتقيات والحوارات، والتعبير عن الآراء بكلّ ألوانها، ولا هي انعقدت وجرت وأثرت بطلاقة، كونها كُبّلت وحوصرت ومُسخت؛ حتى لكأنها لم تكن.
وعلى هذا المنوال، ظلّت الحياة الثقافية، بكلّ مفرداتها وحقولها، تخفت وتخفت، تذبل وتذبل، يبهت ألقها ويبهت، فتكون حينًا، ولا تكون في معظم الأحيان، بحيث جرى الزمن يومًا بعد يوم، وشهرًا بعد شهر، وعامًا بعد عام، إلى أن انصرمت -إلى ما قبل قيام الثورة- إحدى وأربعون سنة، باتت خلالها الحياة الثقافية -في ظلّ الطغيان الحاكم- حالًا فريدة؛ بحيث لم تمت لتُدفن وتُنسى، ولم تحيَ لتنمو وتُذكر.