لطالما كانت العلاقة بين الإخوان المسلمين والنظام الأردني، ضبابية وشائكة، يعتريها التوتر أحيانًا، وتسودها حالة من الوفاق أحيانًا أخرى، وتجد قادة الجماعة في السجون، ثم لا تلبث الأمور أن تتغير؛ فتجد هؤلاء أنفسهم وزراء وسفراء، بل وفي رئاسة مجلس النواب، الذي يُعدّ السلطة الأولى في البلد، بحسب الدستور، الذي يُنصّب الملك رئيسًا وحكمًا على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.
لم يكن الصراع بين “الإخوة الأعداء”، إذا جاز استخدام هذه المصطلح، صراعًا وجوديًا، بل كان أدنى من ذلك بكثير، ربما بسبب فقدان الثقة، أو لعوامل خارجية وضغوطات إقليمية ودولية، فالإخوان المسلمون يتبنون النظام الهاشمي تمامًا، ولا يدعون إلى استبداله أو الإطاحة به، بل على العكس من ذلك، فإن الإخوان المسلمين الأردنيين، وقفوا في صف النظام الملكي؛ لحمايته من الانقلابات اليسارية والقومية، منتصف الخمسينات من القرن الماضي، ونزلوا إلى الشوارع للتصدي لأعداء النظام الملكي؛ وهذا ما جعل منهم قطبًا مُرحّبًا به في الحياة السياسية والاجتماعية والدينية الأردنية.
هذه العلاقة الحسنة بين الإخوان المسلمين والنظام الملكي الأردني، كان يعتريها بعض المطبات الخطِرة، ويتبادل الطرفان، النظام والإخوان، الرسائل عبر الشارع من خلال المظاهرات والمظاهرات المضادة، أو من خلال عمليات الاعتقال التي تطال كوادر الإخوان وقادتهم، وفصلهم من الوظائف، وسحب جوازات السفر منهم، وغيرها من الإجراءات. لكن هذه المناكفة كانت تنكفئ، وتعود المياه إلى مجاريها، ويتم إطلاق سراح المعتقلين وإعادة المفصولين إلى وظائفهم، وإرجاع جوازات السفر إلى أصحابها، عندما يسود الوفاق بين الطرفين.
في مطلع التسعينيات، وتحديدًا بعد ما أُطلق عليه “هبة معّان”؛ احتجاجًا على تردي الأوضاع الاقتصادية، وانخفاض قيمة الدينار إلى النصف، سارع الملك الراحل، حسين بن طلال، إلى اتخاذ سلسلة من الإجراءات السريعة، فأقال حكومة زيد الرفاعي، وألغى الأحكام العرفية، وبدأ سلسلة من الإجراءات التصالحية مع كل القوى السياسية، وعلى رأسها الإخوان المسلمين، وتوجت هذه المصالحة، بإجراء انتخابات نيابية نزيهة، حصد فيها الإخوان المسلمون نحو ربع مقاعد البرلمان؛ ما فتح الطريق لهم للمشاركة -بعد ذلك- في حكومة مضر بدران، بخمس وزارات مهمة، وكذلك فاز عدد من النواب اليساريين والقوميين المعارضين بعضوية البرلمان؛ ما جعل منه برلمانًا بنكهة سياسية قوية.
نجح الملك حسين بإرساء حالة من الاستقرار السياسي والاجتماعي الكبير، مع تمثيل كل القوى السياسية في البرلمان، ومشاركتها في الحياة السياسية، بل وفي السلطة التنفيذية، إلا أن هذا “العصر الذهبي” لم يستمر طويلًا، إذ عمد النظام الأردني إلى إلغاء القانون، الذي أجريت الانتخابات على أساسه، واستبدله بقانون آخر، أُطلق عليه اسم “صوت واحد للناخب”، مع ترك الدوائر الانتخابية مفتوحة ومتعددة الترشيحات؛ لتحجيم كل القوى السياسية من جهة، وتقليص الصوت الأردني من أصل فلسطيني، إلى الحد الأدنى، وأدى تطبيق هذا القانون إلى تقليص حصة الإخوان المسلمين في البرلمان، من 26 نائبًا إلى 6 نواب فقط؛ ما دفع الجماعة إلى مقاطعة الانتخابات إلى حين تغيير القانون.
خلال فترة غياب الإخوان المسلمين، وعدم مشاركتهم في الانتخابات، لم تستطع القوى اليسارية الضعيفة في الأردن، استغلال هذا الغياب من أجل تعزيز وجودها في البرلمان، فقد كان قانون “الصوت الواحد” موجهًا ضد كل القوى السياسية بلا استثناء، مع أنه كان يستهدف الإخوان المسلمين بالدرجة الأولى، وهو ما دفع بعض القوى اليسارية الأردنية إلى مقاطعة الانتخابات بدورها.
بسبب غياب القوى والأحزاب السياسية الفاعلة، سيطر بعض المقاولين ورجال الأعمال و”نواب الخدمات”، الذين يستندون إلى قواعد عشائرية وقبلية وجهوية، على المجلس، إلى جانب بعض المقاولين ورجال الأعمال، والضباط السابقين، وعانى المجلس من الضعف والتردد وعدم الفاعلية؛ ما أدى إلى نفور عامة الناس من الانتخابات، والعزوف عن المشاركة في التصويت والاقتراع، إلى درجة كانت تهدد “صدق” تمثيل الشعبي؛ لأن المشاركة لم تتجاوز ربع الذين يحق لهم التصويت.
بعد عقد كامل من إصرار النظام على قانون “الصوت الواحد”، قرر تغيير طريقة الانتخابات إلى القائمة المفتوحة، وهي طريقة تجعل من “سابع المستحيلات”، لأي قوة سياسية أن تُشكّل أغلبية، أو حتى شبه أغلبية في البرلمان؛ لأن هذا القانون صُمِّم بطريقة تُشتت الأصوات، وتمنع تجمعها، وبطريقة حسابية، فردية وجماعية في آن واحد، فلا هو قانون يعتمد القائمة النسبية المغلقة، أو العد الجماعي للأصوات، ولا هو قانون يوزع الدوائر بحسب عدد المقترعين، وهذا ما أظهرته النتائج التي أفرزتها الانتخابات البرلمانية التي أجريت الأسبوع الماضي.
على الرغم من هذه الحقائق، إلا أن الإخوان المسلمين قرروا خوض الانتخابات البرلمانية، واللعب مع النظام، بحسب “قواعد اللعبة” التي وضعها النظام نفسه، واعتمدوا “تكتيكات” تمكنوا -من خلالها- من حصد 15 مقعدًا من أصل 130، هي مقاعد مجلس النواب، وبنسبة تشكل 12 بالمئة من مجمل المقاعد، ولعبوا -ببراعة- على مقاعد “الأقليات” التي خُصصت للنساء والشيشان والشركس والمسيحيين، وطرحوا عددًا كبيرًا من القوائم الحاصدة للأصوات، التي تُمكّنهم من حصد أكبر عدد من المقاعد، وفي ضوء أنهم كانوا يسعون للفوز بنحو 26 مقعدًا، فإن حصولهم على 15 مقعدًا، يعني أنهم حققوا 58 بالمئة من المقاعد المستهدفة فقط، وهي نسبة قليلة، نظرًا لقوة الإخوان المسلمين في الشارع.
لكن؛ لماذا قرر الإخوان المسلمون المشاركة في الانتخابات التشريعية، على الرغم من معرفتهم المسبقة بأوضاع هذه الانتخابات والعقبات والعراقيل التي تقف في وجوهم.
لقد أراد الإخوان المسلمون الخروج من “عنق الزجاجة”، ومغادرة مربع الأزمات الذي وجدوا أنفسهم فيه، فهم محاصرون -حكوميًا- بشكل كبير، وتعرضوا إلى انشقاق كبير، هو الأول من نوعه، بمباركة حكومية، وانقسم الإخوان بين جماعة الإخوان المسلمين التاريخية، وبين جمعية الإخوان المسلمين التي أسسها المنشقون عن الجماعة، ومنهم قيادات وازنة، على رأسها المراقب العام السابق للإخوان المسلمين، عبد المجيد ذنبيات، إضافة إلى المعتزلين “للفتنة” بين الطرفين.
ما جعل من هذه الانتخابات “هدية” لا تقدر بثمن للإخوان المسلمين؛ من أجل النهوض من بين الركام، وتكريس الوجود في المشهد السياسي، واستعادة الزخم الكبير للشرعية، التي حاولت “جمعية الإخوان المنشقة” تبديدها، بوصفها “الشرعية الجديدة”؛ ولهذا سارعوا إلى الترشيح والتصويت؛ للحصول على “شرعية شعبية” عبر صناديق الاقتراع، وقد حصلوا عليها بالفعل، بينما تبددت “شرعية جمعية الإخوان” في هذه الانتخابات، التي أثبتت عدم وجود سند شعبي قوي لهم.
النظام الأردني -بدوره- يعاني من مجموعة من الأزمات، أخطرها المحيط الملتهب الذي يحيط بالأردن، وتفاقم ظاهرتي الفقر والبطالة وغلاء الأسعار وارتفاع تكاليف المعيشة، وازدياد المديونية الأردنية إلى 35 مليار دولار؛ ما دفعه إلى البحث عن طريقة للتخفيف “نسبيًا” من حدة الأزمات الداخلية، منها إشراك الآخرين في مسؤولية الأوضاع الاقتصادية الصعبة في البلاد، وعدم ترك الإخوان المسلمين للعمل في الشارع بمعزل عن البنى السياسية للدولة، أي أن النظام يريد أن يجر الإخوان المسلمين إلى دائرة المشاركة المحدودة، التي تمنع أو تؤجل أي انفجار اجتماعي لأسباب اقتصادية ومعيشية.
هكذا التقت مصلحة النظام والإخوان المسلمين في “التعايش”، بعيدًا عن الحب والكراهية، بل على قاعدة “تبادل المنافع” بطريقة براغماتية، وهو ما أتاح المجال أمام الإخوان المسلمين لتوفير ممر آمن إلى صدارة المشهد السياسي، وفي الوقت نفسه، أتاح المجال للنظام لتسويق “الإصلاحات السياسية الجزئية” التي ينفذها.
“اللعبة” بين النظام والإخوان لم تنته بعد، فالإخوان المسلمون سيشكلون أقوى كتلة سياسية متماسكة، داخل البرلمان، رغم قلة عددهم، وهذا سيمنحهم الفرصة، لإقلاق راحة أي حكومة مقبلة، وسيوفرون مادة غنية للصحافة، والتي ستجد زخمًا كبيرًا بوجودهم في البرلمان، ومادة خبرية مثيرة، تضعهم في دائرة الضوء وفي قلب المشهد السياسي الأردني خلال الفترة المقبلة.