في مكانٍ بعيد نسبيًا عن بيوتِ الأهالي، يعملُ “اسماعيل أبو رعد” يوميًا في معملٍ لصناعة أحجارِ البناء، أو ما يُتعارف عليه في المنطقة بـ “مَكبسْ البلوكْ”. الضجيجُ الذي ينتجهُ ذلك المكبسْ -مع كلِ “بلوكة” يصنعهُا- يعادلُ زلزالًا نبتَتْ أولُ أسنانِهِ اللبنية، وهو ما جعلَ الرجل يبدو -في نظرِ كل من عرفه- منفيًا ومعزولًا عمّا يدور حوله من أحداث في بلدته الصغيرة؛ بلدته التي تعرضت عبر تاريخها للدمار وإعادة الإعمار عدة مرات.
أطلقوا عليه اسم “أبو رعد” ومع مرور الوقت، صار بعضهم يقترب من الظنّ بأنه مصاب بالصَمَمْ، من قوةِ صوتِ تلك الآلة الرهيبة، وخيّل لبعضهم الآخر أنه أبكم؛ إذ لا يتحدثُ كثيرًا، ولا يبادرُ إلا نادرًا. لم يكن يتيمًا أو “مقطوعًا من شجرة” كما يقال، ومع ذلك بقي في نظر من عرفوه وحيدًا صامتًا مبتسمًا.
وبغرض توصِيته على عددٍ معين من “البلوكات”، أو تحميلِها في سياراتِ النقل، أو من دون سببٍ معين؛ غدا مقصدًا للعديد من سكان البلدة وجوارها، فصار مع كل كأسٍ من الشاي يستقبلُ أحدَهُم تحت توتياء مظلةِ مكبسه، أو في الغرفة الصغيرةِ المجاورة. كلهم كانوا يُحبون “أبو رعد” ويتقربون إليه، مثلما يفعلون في مقامات الأولياء الصالحين؛ ما جعل مكان عمله ممتلئًا بأكياس الإسمنت وأكوام الرمل، غنيًا بالأسرار.
– “كلما سألني أحد المصلّين: ما هي كفّارة شتم الذات الإلهية يا شيخي؟، أتذكّر ثقل الكفّارة التي أحملها في رقبتي يا إسماعيل، الله يلعن ساعة الغضب”.
– “لستُ وحدي، كلُ أعضاء مجلس الإدارة يعلمون أنه وضعَ في جيبه 27 مليون ليرة، مع أن ميزانية المشروع التي أقرت تبلغ 55 مليون ليرة فقط، تخيّل!!”.
العاشقون اعترفوا له بمشاعرهم، اللصوص بسرقاتهم، الخاطئون بخطاياهم، الحالمون برؤاهم، المظلومون بدموعهم؛ حتى أصبح مثل قديس، يجلس في غرفة الاعتراف في إحدى الكنائس.
– “بصراحة، عندما يسألني والدها المُسنّ أقول له: لا تخف، ابنتك أمانة في عنقي… لو أنه يعلم أي مستنقعٍ آسنٍ يلفّ هذه الرقبة!!”.
– “بعد ثلاثة أيام في ضيافة رئيس الفرع، صرت أدخل إلى الصف مثل الخروف، إهانات ابنه التافه ترنّ يوميًا في أذني، لم أعُدْ الشخص ذاته الذي وبّخهُ وهددهُ بالضرب قبل أيام، وصرت كلما سجلتُ له العلامة الكاملة على إجاباته الخطأ في ورقة المذاكرة، أحتقر نفسي أكثر”.
شاءت أوضاع ذلك الشاب أن يتعرف معظم خبايا منطقته، اعتاد أن يستمع إلى كل واحدٍ منهم، قبيل البدء بحديثه الخاص: “عندك للسرّ مطرح؟” إلى أن وَجدَ نفسه فجأة مديرًا لبنكٍ من الحكايات ممنوعة التداول؛ رئيسًا على مستعمرةٍ من المعلومات السرية، الخاصة والعامة.
– “أمي تظن أنني سوف أتخرج هذا الفصل، المسكينة ستصاب بالجلطة إذا عَلِمَتْ أنني ما زلت في السنة الأولى”.
– “ستحل عليّ كارثة بالتأكيد، إذا لاحظ أبو زاهر الشبه بين “ابنه” الصغير وبيني، تلك الفاجرة زوجته صَدّعَتْ رأسي كي أُحبّلها”.
كثرت الأسرار بسرعة كبيرة، وتشابكت وتداخلت وتراكمت، إلى درجة ضاقت بها جميع مطارحه، لم يعد يملك مكانًا شاغرًا لبوحٍ أو لِسِرّ، ومع زيادة الطلب على “البلوك”، بسبب انتعاش تجارة العقارات، ابتكر طريقة جديدة لحفظ أسرارهم جميعًا.
جَرّبَ أن يجبُلَ أسرار أهل بلدته مع الإسمنت والرمل والماء. بدأ يخلطها جيدًا بالرَفْشْ ثم يضع الخليط في المكبس، ليصنع المزيد من البلوك، ولكي يؤمّن مكانًا غير متوقع للاعترافات والخصوصيات… ونجحت التجربة فعلًا.
لم يكن الناس يعلمون عندما يأتون إليه لشراء “بلوكات” البناء، أنهم يشترون معها قصصهم وحكاياتهم، ولم يكونوا على علم أن الجدران التي تستر يومياتهم المنزلية، قد صُنعت من فضائحهم.
بعد أشهر عدة صار الناس يمشون في الشوارع، فتشفّ أمام عيونهم جدران المنازل، وكأنها تحولت إلى زجاج شفّاف؛ باتوا يعرفون كل صغيرة وكبيرة تحدث:
– شَحّاذ البلدة يعدّ رزمًا سميكة من النقود، ويخبئها في فراشه المهترئ.
– أمّ نعمان تمسك جهاز التحكم وتقلّب محطات التلفزيون في أثناء ممارسة زوجها للجنس معها، وكأنها غير موجودة، زوجها الذي طالما تفاخر بفحولته وحرفيته في ممارسة الجنس.
– الصبي الصغير أيمن في يوم ذكرى ميلاده السادسة، يطفئ شمعة غَرَسَها في صورة لقالبِ حلوى فاخرٍ، منشورٍ في مجلةٍ فنية منوعة.
– عينا عجوز اسمه “علي” تدمع بسخاء، وهو مستلقٍ على فراش الموت، بينما ابنه من زوجته الثانية يُبصّمه على أوراقِ بيعِ ممتلكاته؛ ليحرمَ إخوته غير الأشقاء من الميراث.
– جودت -المُخبر- يكتب تقريرًا مسبوكًا بحرفية عالية؛ لتتكفل الأجهزة الأمنية بما تبقى من حياة شقيقه عبد القادر.
– أبو ناصر يخنق مولوده الجديد بالوسادة -على مرأى من دموع الأم – لأنه خُلق معاقًا.
– محمود يمارس الجنس خلسة مع خطيبته، دون أن يخلعا ملابسهما بالكامل، ثم يخرجان لزيارة أحد أقربائهما ومعهما أخوها الصغير كمحرم، دَرءًا لثرثرات الناس.
وحالات كثيرة جدًا تكاد لا تعد ولا تحصى، وكأن أحدًا ما زجّ أهل البلدة كلهم في غرفة واحدة، فأصبحوا مكشوفين على بعضهم، وكأنهم خلقوا ليرتكبوا الخطايا ليس إلا.
وفجأة، -وفي يوم صيفي هادئ- اختفى إسماعيل أبو رعد، لم يعلم أحد كيف؟ ولماذا؟ وأين هو؟ ولم يمضِ كثير من الوقت؛ حتى صار الناس يرددون قصصًا، يقولون إنها حقيقةُ ما آلَ إليه مصيره، بعضهم قال: إنه مخطوف من عصابة مسلحة، ويطلبون 15 مليون ليرة فدية، أحيانًا 10 ملايين وأحيانًا سبعة، وبعضهم قال: إنه قُتل على يد أفراد العصابة نفسها، ورَموا جثته في إحدى الآبارِ الأثرية، بينما اتهمه بعضهم بتزعّم مجموعة من قطاع الطرق، وردد آخرون أنه هاجر في ليلة لا ضوء قمر فيها، ويعمل الآن ناطورًا في بناء ضخم بالبرازيل، ورجّح كثيرون أن يكون في غياهب سجون المخابرات بتهمة “شوف شو عامل!!”.
غاب أبو رعد دون أن يوفر الناس طريقةً لكتم أسرارهم وإعادة جدران المنازل إلى عملها التقليدي، دون فائدة. بعضهم وجد أن الحل هو أن يعيشوا في البيت كما يعيشون في الشارع، حيث لم يعد هناك مجال للخصوصية أبدًا. بعضهم رحل عن البلدة دون رجعة، إلى بلاد أخرى، وآخرون بدؤوا يهدّون بيوتهم وينقلون حطامها ويرمونها في بئر عميقة، عند مفرق الطريق المؤدية إلى البلدة؛ حتى باتت معظم المنازل مهدمة في منظر رهيب، وكأن البلاد تعرضت لزلزال مروع.
وكما غاب فجأة -وبعد غياب طويل- عاد صوت مَكبَس البلوك يملأ المحيط ضجيجًا… وعندما سمع أهل البلدة الصوت، هرعوا إليه لشرائها؛ لم يهتموا إن كان الصوت قادمًا من المعمل ذاته، أم من معمل آخر، توافدوا إليه كالعميان، لم يعيروا انتباهًا لما حدث مع اسماعيل في الفترة التي غاب فيها؛ لم يكترثوا إن واجهه أي مكروه، والأغرب من ذلك أنهم لم يدققوا إن كان عامل المكبس هو إسماعيل، أم شخصًا آخر! جلّ ما أرادوه هو أن تعود بيوتهم كما كانت، فجاؤوا إليه -مرة أخرى- محمّلين بالمال وبالأسرار والاعترافات.. والخطايا.