تحقيقات وتقارير سياسية

بشار الجعفري الابن البار لـ “سورية الأسد”

في درس عملي، سُخّرت له قاعات وشاشات العالم على الهواء مباشرة، قدّم بشار الجعفري مرافعته في مجلس الأمن، كأنموذج عن “التشبيح” الذي يُمارسه نظامه، وتجرأ -كالعادة- أمام خمسة دول تمتلك قرار النقض (الفيتو)، وأمام بقية الدول المشاركة في “الحفل”، بما فيها مصر، الشقيقة الكبرى التي لم يكن من حظ السوريين حضورها، ولم تُسعدهم رؤية نياشين رئيسها، تلك النياشين التي تُماثل ما يُعلّقه القادة العسكريون الموالون لـ “النظام”، والملوثة أياديهم بالدماء.

“الجعفري الأنموذج”، لقب قد يكون هو الأمثل، فهو السفير والخفير والمتثاقف البعثي، ومدرس التربية العسكرية والرياضية، ورئيس البلدية والمختار والوزير ومعاون الوزير، كما أنه مذيع نشرة الأخبار الرئيسة في التلفزيون الرسمي، ومقدّم برامج الصباح، وكذلك أمين دائرة النفوس، ومُفتش الجمارك، إنه الجعفري كقالب أنموذجي لـ “الشبّيح” السوري، الذي تمتّع أيضًا بمرتبة قاضٍ، وفوق المنصة في المحكمة، يُمارس إرسال غمزاته نحو المجرم من أسفل النظارة، ليقول له: اصبر على بعض الإهانة فالعبرة بالحُكم، ذاك القاضي السوري ذاته مع بداية الثورة، حمل عصا أو كابل مجدول، وقطع بعض الساحات والشوارع، ليضرب المتظاهرين الأوباش المتمرّدين على الأب القائد، والجعفري هو أيضًا بائع البسطة أمام الجامعة، وفي الأسواق الشعبية، والمزينة بصور ذلك الأب الخالد وسيد المقاومة، وبقية العائلة الفذّة في التاريخ السوري أو تاريخ العالم كلّه، ذلك البائع وتلك البسطة المُعدّة لـ (حفظ الأمن) وبيع الخوف، وإلقاء التّهم على المارة عبر توزيع النظرات، والجعفري هو كذلك المجسّم الأنموذج لعمداء كليات الجامعات السورية، وهو شرطيّ المرور، واستعلامات الوزرات والمؤسسات، ومعاون الوزير ومدير الشؤون الإدارية، ومدير صندوق الصرف، ومسؤول المعاشات، وموظف البنك المانح لقرض تسليف شعبي أو عقاري، إنه مرآة الممرض الذي يراقب الطبيب، والسائق الذي يراقب الموظف، والآذن الذي يراقب المدرس، وهو علامة فارقة لمن يسرق الطباشير وعلب الدواء وأكياس السيروم، وقرطاسية الوزارات والبلديات وخبز المجندين ومواد التدفئة وزفت الشوارع وإسمنت الأرصفة، والجعفري هو الأنموذج الصادق للسفراء والمندوبين والمُبعثين، وكذلك تجده قابعًا في وزارة الثقافة ويحجز دوره في المراكز الثقافية للندوات التوعوية، وفي كاريكتر شخصية من الأدب العالمي على المسرح القومي، وكنجم تمثيل خلف شاشات الفانتازيا، في الكوميديا السوداء.

الجعفري في مجلس الأمن، هو أصدق أنموذجٍ للذي حكم سورية لخمسة عقود، ها هو على طريقة لجان فحص الـ “سوبر ستار”، يتفحص أداء جميع السفراء، ثم يأخذ دوره ليعيد شرعية نظام بين صغار السياسة الخمس، وباقي اللمة التي تُكمل نِصاب الخمسة عشر للمجلس، ومعهم ديميستورا بنظارته الجعفرية أيضًا، فيتحفهم مندوب سورية -في البداية- ببعض الشواهد الأدبية والمسرحية، كما كل مناسباتنا القومية والوطنية والحزبية، حين يصطنعون الثقافة الممجوجة، استعملها الجعفري هذه المرّة ليؤنب من خلالها أميركا وفرنسا وبريطانيا، ومعهم من تكرّم بالحضور، ليهدد شعبه علنًا، وفي أعلى منظمة للأمن باستخدام الفوسفور الأصفر، لا بل يعطي المواعيد والطرق، فتبدو أمامه الدول والمنظمات والهيئات كتلك البسطة على باب سوق الحميدية، أو كطنبر المحروقات المزركش، فينتشي هو كبطل هُمام في هذا التاريخ الأعرج.

استطاع الجعفري أن يكون الابن البار (لسورية الأسد)، ويؤدي واجبه القومي والوطني بتنسيب قادة العالم إلى حزب البعث، وقدّم على الهواء جلسة أنموذجية عن اجتماعات هذا الحزب، بداية من الفرق واللجان الحزبية في الحارات والبلدات، إلى اجتماعات القيادة العليا، وقدّم عرضًا مُسهبًا ودرسًا عميقًا بالتوجيه السياسي، وتحذيرًا واضحًا من قدرته وعلاقاته الحزبية، على اتهام الجميع بالخيانة العظمى، إن راودتهم أفكارهم بأن يعصوا أوامر القيادة الحكيمة.

خمسون عامًا من الوباء الذي جعل أجساد السوريين مسلولة، يصرّ قادة العالم أن يُبقي هذا الشعب الطيب في شتاته وخيمه وسجونه ووجعه، ضحيّة جديدة، حين يفسح المجال لهذا النظام، أن يقصفهم بتلك الطريقة من الانحطاط السياسي والكلامي الذي ثاروا عليه، فيهدد الشعب بالويل والثبور وعظائم الأمور، وبإبادة مقبلة بالسلاح الكيماوي لأهالي حلب، لتصبح الجلسة التي دعت إليها ثلاث دول كبرى، هي أميركا وبريطانيا وفرنسا، كأنها معدّة سلفًا لتمنح الفرصة لهذا المندوب، ليزبد ويُرعد ويتوعّد الجميع بالقتل.

هذه الطريقة الفجّة ذاتها كنا نشاهدها في العقود الماضية، عندما كان المجلس يلتئم لأجل مجازر وعدوان إسرائيل، فليلتئم ممثل إسرائيل ضد الفلسطينيين بصفتهم قتلة إرهابيين، وهي ذاتها رأيناها في المجلس بعد اغتيال الرئيس الحريري، حيث المحقق الألماني ديتليف ميليس يبحث عن كسب الوقت، ويلوم النظام بعدم التعاون والسماح بالتحقيق؛ ليترجى الدول الكبرى بالضغط والمساعدة بالتحقيق، فيرمقه فيصل المقداد -حينئذ- ليُعطي شرحًا وافيًا في الأخلاق لكل الحاضرين، وكل اللبنانيين مع عائلة الحريري المنكوبة، وكانت محصلة تلك الجلسات، شرعنة النظام وضياع المحكمة والجريمة، وها هو الآن يكرر المجلس مع الجعفري هذا الأسلوب، ويصبح دي مستورا عوضًا عن ميليس، تبقى الدول الخمس ذاتها، ليقدّم الجميع فرصة واضحة وجليّة لشرعنة النظام، وتحويل الجرائم ضد الإنسانية إلى وجهة نظر سياسية.

بالتأكيد ليست البشرية على ما يرام، عندما تُفتح القاعات لتجاوز القانون والقيم، والجعفري في مجلس الأمن يُعدّ أفضل صورة عن مدى التشبيح الذي سيسود العالم، إن بقيت هذه النماذج من الأنظمة، والتي أنجبت الآن، وعلى الهواء مباشرة شبيح روسي بمرتبة سفير، يكرر الصورة الجعفرية بتفاصيلها الدقيقة، ويجدها أيضًا مندوب دولة فينزويلا، التي وعلى الرغم من كل بؤسها وفقر شعبها الباحث عن رغيف خبز، يُتحفنا بأن على الآخرين ألا يدعون إلى جلسات لإهانة قائد سياسي كبشار الأسد، ليبدو مندوب مصر كشاهد زور على تهديد الجعفري لشعبه بالإبادة، دون أن يقف مُحتجًا، ودون أن يستفسر من سفراء ثلاث دول عن سبب الدعوة لهذه الجلسة التي عُدّت تهديدًا مباشرًا لحلب، وصمته على السفير الروسي حين يُقرر مصير مدينة بحجم حلب، هكذا عندما يطال الـ “تشبيح” الرسمي السوري أعلى سلطة عالمية، والعالم مترنّح على وقع قانون الغاب، سنتوقّع أن تبدأ الجلسات المقبلة بترديد الشعار الذي يعرفه السوريون.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق