تحقيقات وتقارير سياسية

التدخل الروسي في سورية بالنسبة لأميركا (ضرب عصفورين بحجر واحد)

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1990، بدأ سباق التسلّح بين الولايات المتحدة الأميركية والغرب، وورثت روسيا كل شيء عن السوفيات على كل الأصعدة: الدولية والاقتصادية والسياسية، وكانت تأمل أن تصبح دولة ديمقراطية ذات سيادة ونفوذ بعد انهيار الاتحاد، ولكن ما حصل خيّب آمالها، فاستلمت الحكم الروسي منظومة أمنية تابعة للاستخبارات، تشاركت مع عدد كبير من الشخصيات الفاسدة والمتكسّبة، التي حالت دون تحوّل روسيا إلى دولة ديمقراطية، وأصبحت روسيا دولة ضعيفة البنى، في حالة وسطية بين دول العالم الثالث والدول المتقدمة، وعادت إلى وضع أسوأ مما كانت عليه أيام الاتحاد السوفياتي.

تزامن انهيار الاتحاد السوفياتي مع الحرب التي شنّتها أميركا على العراق، وبدأ بعدها عصر بنية جديدة للنظام الدولي، قائم على قطبٍ واحد، تمثّل بانتصار أميركا على السوفيات، وتحوّلها إلى قاعدة ومركز للنظام العالمي، ومُذ ذلك الحين تسعى روسيا لاستعادة نفوذها الذي ترى أنها خسرته مرتين دون وجه حق.

روسيا والثورة السورية

قبل تحوّل العالم إلى أحاديّ القطبيّة، كان الاتحاد السوفياتي، يسعى لأن يكون له موطئ قدم في المياه الدافئة، فاتجه نحو الجنوب الشرقي، ولكنه دائمًا كان يضع الجنوب الغربي نُصب عينيه، لعله يصل إلى الشواطئ التي تسمح له -من النواحي الاستراتيجية- أن ينتصر على وضعه الجغرافي الحرِج، وعندما هُزمت روسيا من اليابان عام 1905 تحطّم الوهم الروسي في الوصول إلى بلاد الشمس، ولكن ظل سعيها دؤوبًا للسيطرة على مناطق خارج حدودها، ونجحت قليلًا في تحقيقه من خلال بثّها الأيديولوجيا الماركسيّة، والتبشير بـالمجتمع الشيوعي الذي غزت به أوروبا الشرقية، ومن ثم اتّجهت نحو الشرق الأوسط؛ فحقّقت نجاحًا وتغييرًا في جيلين، بدأت في مصر واستكملت في سورية، عندما بنت قاعدة عسكرية لها في طرطوس عام 1971، وبحسب المحلل السياسي عبد الله هوشة “فإن روسيا كانت تنتظر الفرصة لكي تفرض وجودها في المشرق من جديد، وأتاحت لها ثورات الربيع العربي هذه الفرصة، فوجدت نفسها الأجدر على سدّ الفراغ في نواقصها، فكان التدخل الروسي مع بداية الثورة السوريّة، ومند أول يوم بدأت فيه الثورة، في 15 آذار/ مارس 2015، باشرت روسيا تدخلها في سورية، فدعمت النظام الأسدي عسكريًا وأمدّته بالأسلحة، كما ساندته سياسيًا، فعطّلت كل القرارات الصادرة عن مجلس الأمن بخصوص سورية”.

يُعدّ هذا التدخل مكسبًا لروسيا على الصعد كافة، فإضافة إلى ترسيخ قواعدها في البحر المتوسط، كان منفذًا لتفتيت مشكلاتها ومساعدتها على استعادة هيبتها الدولية، لكن، وبحسب تقارير صادرة عن صندوق النقد الدولي، فإن روسيا تعيش أزمة اقتصادية كبيرة، وبناها الاقتصادية معرّضة للانكماش والتدهور في ظل العقوبات المفروضة عليها، على خلفية الأزمة الأوكرانية، إضافة إلى استمرار التراجع في أسعار النفط، فضلًا عن تراجع الاستثمارات المتدفقة إلى روسيا، مقابل تزايد اتجاه رؤوس الأموال للاستثمار في الخارج، وترى روسيا المُنهكة اقتصاديًا أن استحواذها على اقتصاد دولة نامية، سيُقوّي موقفها في العالم، وفي هذا المعنى قال هوشة: “سيصبح الاقتصاد السوري مع الوقت مرهونًا للروس، إضافة إلى مطامع روسيا في الفوسفات السوري، والغاز الموجود في البحر المتوسط الذي وضعت يدها عليه، وهو من حق السوريين، كما تسعى روسيا لتحويل المسألة السورية إلى ورقة ضغط على العالم، بشكل عام، وأميركا، بشكل خاص، لتحقّق مصالحها وتضمن تمدّدها على صعيد المنطقة ككل، وسورية بالنسبة لها (طرف الخيط)”.

لكن أميركا لم تعطِ روسيا حتى اليوم أي شيء مما تطمح إليه، ولا يوجد مؤشرات بأنها سترضخ لطموحات روسيا، ولكن الأخيرة تراهن على هذه الورقة وتتمسّك بها.

أميركا تمنح الفُرَصْ

بدأت الولايات المتحدة تنسحب من المنطقة بشكل تدريجي، وكانت البداية في العراق عام 2011، ثم أفغانستان عام 2012، ولكن عندما انطلقت ثورات الربيع العربي، بدا انسحابها أشدّ وضوحًا، وكان موقفها في خضم هذه الثورات أقرب إلى النأي بالنفس وعدم التدخل، فوجّهت للعالم رسائل مبطّنة فحواها: أنها لم تعد مسؤولة عن سلامة العالم أو خرابه، وفهمت روسيا من هذا الموقف الأميركي بأنها عدم ممانعة لسطوتها من جديد.

وصل “النظام السوري” إلى شفير الانهيار مرتين، الأولى في العام 2013 عندما تدخل حزب الله في معارك القصير، والثانية عام 2015 عندما بدأ التدخل الروسي، بناءً على طلب إيران، ودعوة صريحة من “النظام السوري”، من أجل إعطاء الصفة الشرعية والنظامية للعدوان، والذي كانت ذريعته الأساس محاربة الإرهاب.

دخل الروس إلى سورية مع جيشهم بخديعة، تقول إن مدة التدخّل لن تتجاوز ثلاثة أشهر، لكن هذا التدخّل امتدّ ليدخل الآن عامه الثاني، وفي هذا المعنى أشار هوشة: “كان هذا التدخل بمنزلة احتلال بدعوة شرعية، ومنذ ذلك الحين بدأت روسيا تقيم بنى عسكرية وسياسية وأمنية في سورية، وأصبحنا نشعر أن سورية ملحقة بروسيا في كل شيء؛ حتى في القرارات السياسية ولم تبدِ أميركا أي اعتراض صارم على ما يحصل”.

يتفق محللون، أنه كما للروس مصالح للتدخل في سورية، هناك مصالح للولايات المتحدة الأميركية، لا تقل عنها أهمية، ويعدّ هوشة أن لأميركا “مصالح متغيّرة، وعلى ما يبدو أنها بدأت تنسحب من المنطقة، لتعزّز وجودها في نواحٍ أخرى (ربما بحر الصين)، إضافة إلى وجود مصالح أخرى لأميركا مرتبطة ببقاء نظام الأسد، وتتعلق بالجغرافيا السياسية القائمة على الوجود الإسرائيلي وضمان سلامته، ووفقًا لذلك، فإن الروس يقومون بجزء من العمل الذي يريده الأميركيون منهم، دون أن يطلبوه، وبهذه الطريقة تتحمّل روسيا المسؤولية الأخلاقية أمام العالم، ولا يكون للولايات المتحدة الأميركية يد مباشرة في ما يحصل”.

ومن جهة ثانية، ثمة قناعة بأن روسيا تغرق رويدًا رويدًا في الرمال المتحركة، وقد يتسبب لها تدخلها العسكري المباشر بمشكلات كبيرة، قد لا تقدر على تحمّلها، وفي هذا السياق، قال هوشة: “من الممكن أن تترك الولايات المتحدة الروس لمزيد من التورّط، وهو ما عبّر عنه بسياسة (اللعب بالرمال)، وبذلك تكون قد حافظت على بقاء النظام الأسدي، وبالتالي؛ ضمان الأمن الإسرائيلي، ووصول روسيا إلى مكان حرِج، وانزلاقها للقاع، بدلًا من معاودة ظهورها”.

Author

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق