هموم ثقافية

بلاغة المأساة في الشعر السوري الجديد

حين كان الشعراء يمشون بين حقول ألغام المعاني، كان يحق للحطيئة (جرول بن أوس العبسي) أن يقول: أعذب الشعر أكذبه، فهو يعرف أولئك الأطفال كيف يستخدمون مسدساتهم اللغوية.

آنذاك كانت القصائد سلمًا، تصعد عليه الأسماء، وكانت الكلمات كالقبل، وأحيانًا كالرصاص، إلا أنها لم تكن قبلًا، أو رصاصًا، كانت مجرد كلمات، تأخذ بألباب الرجال، وأفئدة النساء، لا بل حتى الوطن حين يشعر بالبرد، كان يتدثر بتلك الكلمات، قبل أن تتفاقم وحدته، ويشعر باليتم، كما حدث لسورية، بعد أن تلعثمت بذكرها الأفواه، وتحولت إلى سبيّة، سقطت حصانتها من شريط الأخبار، ولم يعد لشعرائها أمل، يتسلقون جدرانه، فلم يجدوا بدًّا من خرق جدار الصمت، لعل العالم يسمع دوي وجعهم..

 

“في الثورة انتصر الجميع، وعدت وحدي خاسرًا/ طفل بلا أبوين يهتف في مظاهرة الصباح/ طفل، بزهرة ياسمين يسدّ فوّهة السلاح”، هكذا يبدأ حسن إبراهيم الحسن وقوفه بباب القيامة، ثم يمضي في طرقاتها، يلامس آلامًا لم تأت على ذكرها وكالات الأنباء: “أمٌّ تُهَدهِدُ طفلها، بيدينِ راعشتين، تمسحُ عن مراياه الرذاذا/ والطفل يهذي، مثل جرو خائف/ أمي.. لماذا الموت يكرهنا، لماذا؟/ الطائراتُ تمرُّ مسرعةً، فيركض، كي يؤثِّثَ من أصابعها

ملاذا”..

في الطريق إلى شبهة النصّ يمشي الشاعر عيسى الشيخ حسن، مثقلًا بالمعاني، وسرب حمام الكلام يحط على راحتيه، يركض بقدمي القصيدة إلى تفاصيل الحياة السورية اليومية: “الآن؛ لا جريدة أقرأ فيها: (البقية في الصفحة) لا انتظار لتيار الكهرباء بعد العاشرة، لا عودة مظفرة بثلاث ربطات خبز، لا أمّهات يهلهلن في نتائج الإعدادية، لا برغل منشورًا في صهيل أيلول، الآن؛ (هلي) هنا أغنية من دون طعم في اليوتيوب، كلمات مبعثرة في نصّ رديء، الآن هلي؛ يلبسون أسمال العالم، هلي؛ خدم المقاهي والمطاعم في بيروت،هلي؛ بائعو البسطة في أورفة وعينتاب، هلي؛ لم يذهبوا إلى حمص وحماة”.. هذا ليس توظيفًا للتراث الشفوي، إنه ذاكرة الشاعر، التوثيق بمعناه الدلالي، وعرض التقابل بصورته الممتدة، التي تنتظم مجمل النص، وتحيل إلى مخرجات التراث الإنساني، لتمكن لغة التراث الشفوي من معادلها الفني في الشعر. ويمضي في استثمار معطيات الواقع: “حين آخينا البنفسج يا صديقي، كان ثمة إخوة نادوا علينا، أن أقيموا أول الموت، ولا تنتظروا/ شفقًا يبكي، وليلًا يستتاب، وكان ثمة أصدقاء تناثروا مثل الأهلة/ واستباحوا كل حزني/ حين مروا، وارتقوا درج الغياب/ كان ثمة إخوة نادوا علينا، وتهادوا خوفهم في ليلنا/ وتعاموا عن هزائمنا طويلًا، ومشوا في النص ليلًا.. لم يرافقهم أحد، وتهادوا جفنها المبلول من (زعل) /ونادوا/ أن أقيموا أول الورد/ حثوا موتكم نحو مساء، لم ّ يغسّل وجهه ُ دمع سحاب”.

 

يومًا ما ستعود المياه السورية إلى مجاريها، بعضهم يقول: إنها لن تكون صالحة للشرب، وبعض آخر يعتقد أنه سيكون لدينا كثير من الحكايات عنها، تلك الحكايات وثّقها المغيرة الهويدي، بحذر الناقد، وشفافية الشاعر:”ستنتهي الحرب، وسيكون هنالك صمتٌ طويلٌ، تقطعه لعناتٌ متقطعة وكثيفة، وسننصت جيّدا لصرير الأبواب كلّما فتحت، الأبواب التي صمدت مصادفةً، وسنضحك دونما سبب، وسنبكي لأسباب كثيرة، ليس آخرها النصر، وليس أوّلها الهزيمة”.

 

أما حسن بعيتي، فقد انحاز إلى كثافة الظاهرة الأسلوبية، من خلال توظيف المعنى والإيقاع والتركيب، وترك وجع السؤال عاريًا: “جبلٌ منْ قتلاهمْ.. جبلٌ منْ قتلانا/ علمٌ يُرفعُ أعلى.. أعلى/ علمٌ آخرُ يُرفعُ.. تعلو أصواتُ المُنتصرينَ المُحتفلينَ على ضِفّتهمْ/ تعلو أصواتُ المحتفلينَ المُنتصرينَ على ضِفتنا/ واللهُ هنا.. وهناكْ/ يا صاحبَ هذي الحربِ تجلّ لِنراكْ”.

 

لقد وجد الشعراء السوريون أنفسهم أمام مهمات جديدة اقتضتها الضرورة، ولغة جديدة فرضها الواقع، فاستعادت كفّ الشعر أصابع الأسئلة.. فأمام بلاغة الواقع، لم تعد مبالغات المجاز مجدية، ولم تعد القصيدة تحتمل الشرح أو التفسير، وليست بحاجة إلى ناقد يرتقي بذائقة القراء على سلم بيانها، لقد اقتربت من الأرض، مشت في الشوارع، استندت إلى ما بقي من جدران، وقالت كلمتها.. كل من في سورية، وما فيها، قال كلمته: السلاح، الأرض، الشجر، الحجر، البيوت، الشوارع، وعبد الحميد الخلف الإبراهيم: “وصحت يا ربّ مَدَد، كي نعبر التّيه إلى الموت، إلى الخريف، كي نستفيق دونما فحيح، ودونما حفيف، ودونما قنابل، كي لا نسلّ القوت من مزابل الشّعوب، ونقطف القمر، من كومة القمامة، وقد عضضنا أصبع الندامة”، وبقيت “كي” معلقة، بانتظار المدد المأمول، وبقيت عين الشاعر تراقب المشهد “خرجوا من الوادي، تسوق جموعهم أضغاث أحلام، رُؤَىً سقطت على وقع القذائف والقنابل في الوحول. طُرِدُوا جريرة بوحهم بالحب: يا حرية حمراء غنينا لها خمسين عامًا، كان فيها الحب ممنوعًا، وكان الخوف مشروعًا، وكان الجوع مجموعًا، كأنهار العجاج على التلول”.

في الطرف الآخر من المشهد الشعري، ثمة أصوات تلطّت بجدار الذكريات، ومشت إلى حيث تريد القصيدة، باعتراف شحيح يقرّ الدكتور سعد الدين كليب أنه قد عاش “وعشتُ كابوس الدم القاني، وحلْم السنبل المنسيّ في نُعماهْ، وعشتُ الخوفَ، يفرشُ ظلّه الناريَّ، عشتُ الموتَ، في تابوته البشريِّ، عشتُ الريحَ، لا تُبقي على وثنٍ، ولا حجرٍ له أو جاهْ”.

 

ثمة ذكريات عنيدة، تأخذ شاعرها إلى شجن يقد قمصان الغياب، هذا التعاقد وثّقته الشاعرة فاتن حمودي في مجموعتها الشعرية “قهوة الكلام”: “أدخل العواصم والمدن، أرسم نهرًا في الرمل، أرسم صفصافًا، أتزوبع، فتغيب الأبعاد/ لم يعد مركب ولا ياسمين، لم يعد نهر يتذكر مجراه، كنت منكسرًا، وأغني../ لي فيك يا بردى.. يا بردى”.

 

أما الشاعر عبد الله الحامدي فإنه ما زال يضع القول على القول، وينقّي لغته من الدواخل، فكان لقصيدته أكثر من بنية وظيفية: “ما غادرنا متردّمَنا، بل عاودنا لجزيرتنا/ نضع القول على القول/ ونمطّ الليل على الليل/ ونعدّ العدّة للشرّ).. حتى يصل إلى تلك النتيجة المأسوية العجيبة: “لم يبق رجال في هذا الوطن المغبرّ/ على قارعة الصحراء/ طفلٌ في الخامسة من الحرب/ يستلّ صباحًا كعب البارودة/ كي يدفع/ لا يدري ماذا عن ماذا؟!”، الأجمل في عبد الله الحامدي أنه لا يستعير حنجرة أحد، يوثق منشوره بجماليات البساطة: “كل مساء/ قرب نافذتي أنتظرها/ يمضي مسائي كله/ لا أنام ولا أراها”، وكأنه يشيح بوجهه عن مرايا البكاء؛ حيث تشكل الشحنة العاطفية حاملًا موضوعًيا لقصائده، وتجعل لغته مخضبة بألم موارب، وقد يرجم بالغيب علمًا، كما يقتضي الشعر: “في الأربعين ينوء الوطن/ رويدًا.. رويدًا”، وها هو الوطن قد نأى.. وناء!

 

في نصوص محمد المطرود، ثمة حياة سورية، هاربة من الجغرافيا، “لملم” تداعياتها المتهدلة، وراح يخبّ في ثوب ذكرياته: “أنا شبيهُ قارب الموت/ فالتقط رسالتي العرجاء يا ماءُ، ثمةَ مهزوم في داخلي، يتوكأُ على الذكرى، ويرسم من طريق الرجوع بيتًا وأطفالًا وحياةً ناقصة، ومن جملة ما يحفظُ جميعَ الأصوات، وأذنهُ صارت آلة موسيقا ونغمة نفير. قُل لأهلي، فَرطِ حَبَّةِ الرُمانِ الناريةِ، المشغولينَ بثمنِ الرصاصةِ وكِسرةِ الخبزِ وتذكرةِ الموتِ إلى أوروبا: محمد لم يتزوجْ المرأةَ الأوروبيةَ من أصلٍ سوري، واكتفى بإنجابِ أطفالٍ طيبين من ضحكتِها الحلوةِ”. وحين تأخذه الحمية، يعلن نفسه شاعرًا متبوعًا بـ “كأنّ”: “لا أهيم في كل واد/ يتبعني الغاوون في سهل سوري/ كأننا جئنا لننازل بعضنا، لا لنتعانق/ ونسرد قصة الوهم، من أولها إلى أولها”.

 

أما روح الحنين التي تسكن محمد علاء الدين عبد المولى، فإنها تصطاد بلاغة البراكين “تزوج جلاد جلادة، فأنجبا أقفاصًا لطيور أولاد الجيران. في عيد زواجهما الأول أهداها سوطًا ناعمًا، فأخرجت له من تحت فستانها رئيسًا، وقالت له: اتخذه وطنًا، وإذا جعت كله قبل أن يأكلنا.. وعاشا في سبات ونبات، وقتلوا بنين وبنات”،

أمّا حسن شاحوت فقد نذر مساء المنافي للركض “تتساقط عليك الكآبة واليأس من كل الجهات!! وتأخذك الهموم إلى تفاصيل الخديعة والشحوب/ اهدأ فقط، وهيئ نفسك لقراءة قصيدة حبّ في ساحة المعركة/ واترك الموسيقى تسيل فوق كلّ هذا الخراب)

وهكذا تحول الشعر السوري الجديد عن مسار “ديوان العرب”، بعد أن تحولت سورية إلى أطلال، فكتبها الشعراء في يقينهم، وراحوا يبحثون عن أصواتهم بين الضحايا.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق