سورية الآن

تحولات الحركات الإسلامية “حماس” وخطابها الجديد

لم يكن الصراع الفلسطيني الداخلي، خلال العقود الماضية، أقل خطرًا على القضية الفلسطينية مما فعلته إسرائيل، بل -في بعض مراحله- كان مدمّرًا على كافة الصعد، وأوجد شرخًا ليس سياسيًا فحسب، بل اجتماعيًا كذلك؛ حتى انسحب إلى داخل بعض الأسر، وكذلك مخيّمات الشتات التي عُدّت عنوانًا موقتًا، وساعدت في لمّ شمل بعض الفلسطينيين، لتأتي الصراعات الداخلية، فتزيد التشتت شتاتًا، خطاب حركة “حماس” الذي ابتدأ منذ أشهر، بل حتى كانت هنالك إرهاصات له في 2012، إلا أنه أخيرًا بدا وكأنه أدرك أثر هذا الصراع الفلسطيني داخليًا وخارجيًا، فهل يكفي توجيه خطاب إعلامي من قادة الحركة؛ ليعبّر عن أدائها السياسي، ومن يُعيد حركة التاريخ للخلف.

في الدوحة وضمن ندوة حول “التحولات في الحركات الإسلامية”، نقلت عدّة وسائل إعلام عن خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، قوله: “إن الحركة أخطأت عندما استسهلت حكم قطاع غزّة بمفردها، عقب الانقسام مع حركة (فتح)”، هذه الجملة بالنسبة للمتابع (حكم قطاع غزة) ربما ستبقى في خط سير القضية الفلسطينية، علامة فارقة لمرحلة تاريخية في هذا التوهان السياسي الفلسطيني، ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وكذلك فلسطينيي 1948، وفلسطينيي الشتات، فتعيد القضية إنتاج مفردات الانقسام التعبيري والبنيوي، بين الفصائل والتيارات الذي كان جزءًا من مسيرتها، وكأنه حقيقة جغرافية مُستدامة.

الإيديولوجيات تستلهم الشعارات لا الأفعال

ما يهمّنا هنا ليس مسيرة تلك التنظيمات، التي تعاقبت على توجيه الخطاب الفلسطيني، منذ نهاية ستينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا، بل في خطاب أهم حركة إسلامية فلسطينية معاصرة، ظهرت مع تمدد الفكر السياسي الإسلامي على الحركات المقاومة، بعد تراجع الفكر القومي وضعف تأثيره في وجدان أبناء الأمة، وأيضًا دخول الفكر اليساري في أزمته الداخلية، وعجزه عن مواكبة العصر، وغياب الفكر السياسي الاجتماعي والحقوقي عن الساحة العربية بسبب سطوة الأنظمة وحجم القمع، واستبدالها بالشعارات الكبرى، كالتصدي للاستعمار والامبريالية والعمل باتجاه الوحدة والتحرير؛ ما أتاح للخطاب الديني إمكانية تعبئة الفراغ، والدخول -بلا عقبات- إلى عاطفة الأسرة المنهزمة من الداخل، نتيجة انهزام القضايا الكبرى التي ارتبطت بها.

كرر الإسلام السياسي -خلال فترة استيلائه على إدارة شؤون الناس- في بعض الأماكن، ومنها القطاع، الأخطاء نفسها التي وقعت فيها الأحزاب القومية واليسارية بمسيرتها، من خلال تعاملها مع الأزمات اليومية والشؤون البسيطة للناس، وتقديم وجبة شعارات، عوضًا عن وجبة حلول، وأيضًا بتعاطيها مع القضايا الكبرى كوسيلة، إما لاتهام الآخرين، أو لتعظيم دورهم، ولم تقرأ الحركات الإسلامية مجمل ما يواجه المجتمع من تفاصيل بسيطة، إن في السياسة أو الاقتصاد أو التعليم أو بقية الخدمات، بطريقة الطبيب الذي سيعالج، بل بطريقة الطبيب الذي لديه القدرة على التمتّع بأحقية استصدار قرار الموت الرحيم ليُنهي حياة المريض.

إن التمعن في ما قاله مشعل عن عدم رغبته الترشح لانتخابات رئاسة المكتب السياسي للحركة العام المقبل، تستلزم النظر إلى رؤية المشهد الأعم في المنطقة، فراشد الغنوشي في تونس كان قد أعلن في أيار/ مايو من العام الجاري، أن حركة النهضة، تتخلى عن دورها الدعوي، وتتبنى خطابًا سياسيًا يتبنى -بدوره- الإصلاح من خلال الدولة، لا من خلال المجتمع، كحزب أو حركة، وهنا قد تبرز التجربة التركية في هذا الموضوع، حيث تبنى حزب العدالة والتنمية، إصلاح الدولة التي أدّت بدورها إلى نهضة وإصلاح المجتمع، لكن التجربة المصرية البسيطة واليتيمة قبل الانقلاب العسكري، ذهبت مباشرة إلى الدولة؛ لتطويعها لصالح الحركة واستثمار فوزها بالانتخابات بأسرع ما يمكن، وعندما جاء الانقلاب، وجد الإخوان أنفسهم وحيدين بمواجهة العسكر بعكس تركيا.

مشعل رئيس المكتب السياسي السابق

قال مشعل في كلمته في الدوحة يوم السبت الماضي: إنه من الجيد أن يُقال عنه رئيسًا سابقًا للمكتب السياسي للحركة، كما يُقال عن إسماعيل هنيّة رئيس وزراء سابق، وبذلك يكون أنموذجًا فلسطينيًا يُعتز به، هنا تأتي منّة القائد العربي على شعبه، وهي ذاتها مكرمة القوميين واليساريين التاريخية المعتادة، حتى في استعمال المفردات، وعلى الرغم من ذلك، فإن مشعل قد قاد “حماس” لأربع دورات متتالية، كل دورة مدتها أربع سنوات، وكان قد أعلن قبل آخر دورة أنه لن يترشح في الدورة الرابعة، إلا أن الحركة أصدرت بيانًا صحافيًا في كانون الثاني/ يناير 2012، قالت فيه: إن الإخوة في قيادة الحركة مع رموزها قد “تمنّوا على الأخ المجاهد خالد مشعل العدول عن ذلك”، وكان أن عدل مشعل عن قراره -كضرورة تاريخية- في تلك الأوضاع، مقدّمًا المصلحة العليا على المصلحة الفردية.

مع الثورات المضادة للربيع العربي، كما قال مشعل، فإن قراءة المشهد تطلبت من “حماس” العمل على ترتيب البيت الفلسطيني، وهو ما استدعى النظرة النقدية على ما يبدو لبعض السياسات، فسابقًا عندما قرر عدم الترشح لرئاسة المكتب السياسي، كان قد سبق ذلك التوصل إلى اتفاقية في الدوحة أيضًا مع “فتح”، على تفعيل دور منظمة التحرير الفلسطينية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وإحياء اللجان العامة، بما فيها لجنة المصالحة الوطنية، لكن هذا الاتفاق قد عاد إلى الأدراج، وبقي البيت الفلسطيني على حاله، بل ربما أسوأ، مع ما مر على الفلسطينيين، وخاصة في سورية، وبالذات مخيم اليرموك الذي قُتل فيه الناس جوعًا وقصفًا، وتحكّمت ببعض مفاصله كل من جبهة فتح الشام وتنظيم الدولة، مع ما مارسه “النظام” من عمليات تدمير وإبادة وتهجير، فذهب الفلسطينيون إلى شتات جديد ومؤلم، وبدت كل القوى الفلسطينية عاجزة عن مواكبة الحدث الجلل، ومكبّلة اليد عن التأثير فيه، والسلطة -بدورها- ظنت أن تقاربها مع “النظام السوري”، هو الحل لمشكلة الفلسطينيين هناك، واتضح أن الجميع لا يمتلكون أبسط الأدوات الفاعلة، على الرغم من ذلك التاريخ الطويل في التعامل مع قضايا المنطقة.

خطأ حماس وفتح والشراكة في السلطة

أشار مشعل -أيضًا- إلى أن “حماس” أخطأت عندما ظنت أن “زمن (فتح) قد مضى، وحلّ زمن (حماس)، و(فتح) أخطأت عندما أرادت إقصاءنا”، قد يكون هذا هو الأهم في كل ما قاله، والذي سيقود حكمًا إلى ما قاله -أيضًا- بأن على الإسلاميين أن يتحمّلوا النقد، بوصف أنهم وقعوا في خطأين خلال الربيع العربي، هو أنهم بالغوا في تقدير الموقف مع قلّة خبرتهم، وكذلك “الخلل والنقص في التعامل مع شركاء الوطن، واعتماد نظرية البديل الخاطئة”، موضحًا أن الشراكة يجب أن تكون مع كل شرائح الوطن، وفي هذا يختصر مشعل أزمة الفكر العربي الإقصائية كلها، وليس حركات الإسلام السياسي، لكن المهم فيه أن الإسلام السياسي اعترف سريعًا بالخطأ، بينما اليسار العربي والقوميين العرب، ما زالوا يعزفون على نغمة الماضي ويستلهمون خطاباته، بل لو كان بيدهم لأعادوا بناء تماثيل جديدة لقادتهم التاريخيين، واستفادوا من تقنيات العصر، وزرعوا في كل تمثال مسجّل صوت، يُعيد خطابات رموزهم الملهمين على مدار الساعة.

السلطة الفلسطينية التي هي أنموذجًا غير مكتمل الولادة عن السلطات العربية، بحيث بقيت معلّقة بين عدّ نفسها تنظيمًا سياسيًا باحثًا عن اعتراف به كحالة نضالية، وبين رغبتها في تأدية دورها كحكومة صاحبة مؤسسات، لكنها غرقت في ذلك، ولم تستطع ترسيخ الدولة لا على الورق، ولا بذهنية الفلسطيني وتفكيره أينما كان، من خلال عدم ابتزازه نتيجة قدرتها على تقديم هذه الخدمة أو تلك، أو التمييز بين أبناء الوطن، تبعًا لانتماء سياسي أو أيديولوجي أو ديني أو جغرافي، فلا يجوز أن تستعمل القانون بصفتها تنظيمًا سياسيًا، وتنسى دورها كسلطة، وهنا تكمن الحالة العربية الراسخة في فهم دور الدولة بشكل مغلوط، على أنها ملك أفراد بعينهم وأحزاب وتيارات لا مواطنين، وهذا هو الخلل الذي نسخته “حماس” أيضًا؛ لتؤديه في قطاع غزة، فوقع الجميع في دوّامة الأنا، لا في مساحة الوطن الذي يجب أن يُصبح تجربة تُذهل العالم، بقدرة هذا الشعب الذي ضحّى كثيرًا وطويلًا على مذبح الحرية، على إنشاء مؤسسات وأركان دولة، وأنه يمتلك من الطاقات والكفاءات ما يؤهله لذلك، دون أن يدخل في صراع الإيمان والتقوى، وهو ما أشار إليه مشعل أيضًا عندما خاطب دول الربيع العربي، أن عليها العمل على “الشراكة الوطنية وتحمل المسؤولية والتوافق الوطني والسياسي”، وهو بالتأكيد خطاب موجّه لحركات الإسلام السياسي العربية، فهل ستبدّل “حماس” مواقع مسؤوليها من مكتب إلى منصب، أم ستبدّل الفكر الذي يتعاطى مع القضايا داخل الحركة ومع الشركاء، لعل الزمن كفيل بالإجابة.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق