هموم ثقافية

وجهة النظر والهوية

ثمّة فرق شاسع بين من يتبنى وجهة نظر بمعطيات منطقية وعقلية يَعلمُ أنها قابلة للجدل والمحاكمة، وبين من تُصبح وجهة نظره هي هُويته التي يستمد قيمته منها، ويرى العالم كله من نافذتها. فالأول يعكس إدراكًا بأن معارفه وقناعاته هي سبيله للارتقاء نحو فهم أكبر لنفسه ومحيطه، بينما يقع الثاني في هاوية عقلية؛ فتصبح وجهة نظره هي مليكه، بها يوجد وبدونها يموت.

بمعنى آخر، هنالك خيطٌ رفيعٌ جدًا يفصل المرء عن تقمص وجهة نظره، التي أتت في الأصل نتيجة تغيرٍ طارئٍ على وعيه من خلال معرفةٍ ما، هذا الخيط هو وعي داخلي بأن وجهة النظر” هي نتاج معرفة تراكمية، وهذه المعرفة هي رهينة التطور، والتطور هو المنافس الأوحد للثبات، والثبات هو نقطة الانتحار البشرية.

والملفت للنظر أن وجهات النظر أصبحت عند الإنسان (هويته الثابتة)، يتمسك بها سنوات طويلة، ويُحاكم مجتمعه عبرها، ويُقسّم الأفراد على أساسها، متناسيًا أن الطارئ المعرفي الذي أنتج هذه (الهوية) مازال في حالة سيرورة وصيرورة تدحض كل تصوراته حول ثبات وجهة نظره: هويته.

النظر في هذه المعضلة الفكرية يفتح لنا آفاقًا أوسع لنرى الواقع السوري من خلالها، ونُشرّح مشكلاتنا الاجتماعية والتواصلية على طاولتها، بدءًا من خلافات الأفراد وانقسامات المجتمع، مرورًا بالساحة السياسية والعسكرية للمعارضة السورية.

ولعل المتصفح والمدقق، وليس المُنخَرط، في شبكات التواصل الاجتماعي الخاصة بالمجتمع السوري يدرك تمامًا هذه المعضلة، حيث لا تخلو هذه الشبكات من مفاهيم التخوين، الإقصاء، انتزاع صفة الوطنية، اتهامات، تراشق إهانات. كل ذلك يرجع إلى مقدمة نظرية عقلية هي الأساس (دمج الهوية بوجهة النظر) وعدم السماح لأي شخص بالاقتراب منها (وجهة النظر) أو محاكمتها جدليًّا، وكأن الوقوف على الجانب الآخر من وجهة النظر بات الوقوف في مواجهة (الهوية) وهجومًا على (الأنا).

انطلاقًا من هذه المعضلة يمكن أن نرى سبب اتساع الهوة الفاصلة مابين المثقفين والناشطين السوريين أنفسهم، مجالسهم انقسمت بشكل “صراعي” حسب وجهات نظرهم، والنقاش بينهم بات طريقًا للخصومة لا لتمحيص المعارف وتطويرها، معارضة وجهة نظر أحدهم تعني معارضة (الأنا) فيه، ومعارضة الأنا تعني معركة دفاع عن النفس بدأت في المكان، لتنتهي المعركة وكلّ انتصر لنفسه مُبعدًا الآخر عن حياته. هؤلاء هم نفسهم الذين جمعتهم الساحات أو المنازل في سورية سابقًا على الرغم من اختلاف وجهات نظرهم وتصوراتهم لهذا العالم.

الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، كونه الواجهة السياسية للجانب المناهض للنظام، هو مثال يمكن أن نرى فيه تجلي هذه العقبة الفكرية، حيث أن أبرز مشكلاته التي تُعطل مفاصله الحركية هي انزياح كل كتلة سياسية من مكوناته إلى وجهة نظرها التي تعدّها (الهُوية الفارقة)، والتي لا يمكن أن تتنازل عنها في خضم صراعها مع (هُويات) الكتل الأخرى.

مكونات الائتلاف “ائتلفت” على أنها معارضة للنظام فحسب، واختلفت في غالبية التفاصيل الأخرى، بدءًا من طريقة نزع السلطة عن النظام، وانتهاءً بشكل الدولة القادمة في سورية، وهو ما جعل هذه المؤسسة تدخل في صراع بين قوى بنيتها الداخلية، وبذلك مضى على نشوئها سنوات دون أن تُشكل بديلًا منطقيًّا ومُدَربًا للنظام يُقدم نفسه للعالم أجمع، كل بضعة أشهر يستلم المؤسسة رجل تدفعه كتل داخلية متحالفة باتفاقات مبدأية.

كما أن حال القوى العسكرية المعارضة تعكس وجهًا مشابهًا لحال المؤسسة السياسية، حيث أن اختلاف التصورات لمستقبل البلاد قاد بالضرورة إلى اختلاف التحرك، وحال دون توحدها تحت راية بمعالم واضحة وخطوات مدروسة مُوَحّدة، بل أدت تلك الخلافات في التصورات العقلية للمستقبل، والتي تعدّها كل جهة ثابتة لا نقاش حولها، إلى صراع دموي بينها أكثر من مرة، هذا الصراع كان أحد أهم الأسباب التي جعلت منها الجانب الأضعف في الميدان.

 

ولربما كان هذا الصراع، الموجود في الساحة السياسية، له مبرراته لو أنه لا يتم في المنفى، ويتم على أرض لا دماء تسيل عليها الأرض، تتربع على عرشها مؤسسات وقوانين، هناك فقط يصبح الصراع على المفاهيم يحمل غطاء آخر يسمى “الديمقراطية”. أما عن الناحية العسكرية، فالعسكر لا مكان فيه للاختلاف حول الأجندة الوطنية، هو حامي البلاد فحسب.

المخرج اليوم هو من خلال إعادة ترتيب الإنسان لوعيه بنفسه، ليدرك مجددًا أن وجهة النظر ليست (هويته) التي بها يحاكم العالم، وجهة النظر هي شيء مُنفصل عنه تمامًا، تتغير بتغير معارفه هو، وتصبح معضلة اجتماعية عند اتخاذه القرار بأنه لن يُدخل إلى جوفه معارف أكثر. كما أن عليه أن يدرك أن اختلاف وجهات النظر ليس معركة شرسة يجب الدخول فيها، إنما هي حالة صحية في مجتمع يصبو إلى التطور والتغيير، لا الثبات والموت.

 

وهنا تجدر الإشارة إلى أن النظام مُستثنى من هذه المادة؛ لأنه خَرَق كل قواعد المنطق والعقل بتصرفاته، ووضع منهجه على محور التفكيك العقلي هو الجنون بحد ذاته، ولا سيما أنه هو لا غيره من أمضى عقودًا من السنوات يحاول تَغيبَ العقل عن السوريين، ويكسر كل قلم نادى بالعقل والعدل.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق