هي ليست حرب باردة، كما يحاول بعضهم أن يسميها، بل ساخنة بحرارة دم السوريين ولحمهم الحي، ودفء بيوتهم ومدنهم وأمانيهم، ليقول بعضهم أيضًا: إن بوتين يجري إعلانًا تجاريًا في سورية، لأنواع أسلحته الفتاكة؛ كي يبرم عليها عقودًا، بل صرّح هو نفسه بلا أدنى إحساس بالمسؤولية الأخلاقية أو الخجل، بأنها عملية تدريب غير مُكلفة لقواته.
يختلف قلق الدول الأوربية من الطموح الروسي، عن قلق الولايات المتحدة الأميركية، شريكتهم السياسية والعسكرية، أولًا؛ بسبب الجغرافيا وتشابك مناطق النفوذ الحيوية، وثانيًا؛ بسبب ما تسعى إليه روسيا من إعادة التأثير في بعض دول أوربا الشرقية، من خلال استثمار العلاقات القديمة إبان نفوذ الاتحاد السوفياتي، ونشر بعض الصواريخ في بعض القواعد التي يمكن أن تهدد أمن أوربا، وفي المقابل، تقول روسيا: إن تمدد حلف شمال الأطلسي نحو الشرق، يؤثر في أمنها وفي الوجود الحيوي لقواتها، بينما من المرجّح أن أميركا تنظر للموضوع برمّته، من خلال تجربتها السابقة بعد الحرب العالمية الثانية.
قد يكون من المفيد معرفة أن الولايات المتحدة، تأخرت في الاعتراف بالاتحاد السوفياتي بعد الثورة البلشفية عام 1917، حيث تم بناء العلاقات الديبلوماسية بينهما بعد 16عامًا من ذلك التاريخ، على الرغم من أن العلاقات الاقتصادية بينهما لم تنقطع، وفي أثناء الحرب العالمية الثانية كانت أميركا إلى جانب روسيا بوجه النازية الألمانية، لكن المزاحمة على النفوذ بالقارة الأوروبية بشكل رئيس، أدى إلى صراع من نوع جديد بين البلدين، وصل إلى تشكيل أميركا والغرب حلف شمال الأطلسي؛ لتقوم المنظومة الشرقية بعدها بقيادة الاتحاد السوفياتي، بتشكيل حلف وارسو، فابتدأت الحرب الباردة بين القطبين، وهي ناتجة عن توازن الرعب؛ بسبب القلق من استخدام السلاح الذري، وفي سبعينات القرن الماضي توصّل الجانبان إلى اتفاقيات ثنائية، تحد من بعض التجارب النووية والصاروخية بعيدة المدى، وكل هذا أدى إلى انخفاض حدة التوتر بينهما، وإلى استبعاد حدوث صدام مباشر، مع ملاحظة أن العلاقات بينهما قد مرّت بحالة توتر أكثر من مرة، منها بسبب الصواريخ الروسية في كوبا، وعدوان أميركا على فيتنام، وأيضًا بسبب عدوان روسيا على تشيكوسلوفاكيا، إضافة إلى بعض الأحداث الأخرى، ولكن بقيت جميعها مضبوطة الإيقاع دون مواجهة مباشرة.
بوتين ورغبته في إعادة “مجد” الاتحاد السوفياتي
من الواضح أن تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991، كان بداية مرحلة جديدة بين الجانبين، حملت معها أيضًا عناوين أخرى، وبدأ بحث الروس عن علاقات اقتصادية ونفوذ تجاري دولي، أكثر من النفوذ العسكري الذي أنهك الاتحاد السوفياتي لعقود طويلة، ومنع التنمية الداخلية فيه وبالعديد من الدول التي شكلت المنظومة الشرقية، وبعد حل حلف وارسو وانصراف الدول التي شكلته إلى إقامة علاقات مع المنظومة الغربية، ثم دخول بعض منها في الاتحاد الأوروبي، كان لابد للروس -مع رغبة بوتين بإعادة الحضور الدولي لروسيا- من البحث عن الطرق التي تعيد لهم بعض التوازن في الحضور السياسي الإقليمي، فوطّدوا علاقاتهم مع الصين وإيران وتركيا، وكلها تمتلك نفوذًا في الدول المحاذية لروسيا، والتي تعدها منطقة حيوية بالنسبة لأمنها، وهذه الدول الثلاث -أيضًا- تمتلك طموحًا في تثبيت حضورها على الساحة الدولية، فتقابلت المصالح التي أدت إلى تفاهمات بينهم، تبقى أقل من حلف حقيقي اقتصادي أو سياسي أو عسكري، لكنها أعطت مساحة للمناورة السياسية لكافة الدول المذكورة، وهو ما استفادت منه روسيا بشكل أوسع.
سورية في حسابات بوتين
في الشرق الأوسط كان للتطورات المتسارعة على الساحة السورية، بعد انطلاقة الثورة، أثرها على السياسة الروسية، التي كانت قد فقدت حضورها بالعراق بعد التدخل الأميركي؛ إذ إن القرار الأميركي تجاوز الرأي الروسي حينها وما زال، والطموح الروسي في البقاء كعنصر فاعل في الشرق الأوسط، لم يبق أمامه إلا سورية، فوجد قصر النظر السياسي الروسي، أن البوابة لذلك هي “النظام السوري” المستهلك والمنتهية فاعليته، فدخل معه بدوامة حرب، لا يضمن نتائجها، وبعد عام على التدخل المباشر، وبجردة حساب بسيطة، سيظهر للروس أنه في حال توقفت الحرب الآن، ما الذي حصدوه غير ارتكاب جرائم الحرب، والتغطية على جرائم الآخرين.
أما الخطاب الإعلامي السائد بأن الروس يفاوضون أميركا، ويطلبون الاعتراف بمصالحهم بوصفهم أصبحوا قطبًا آخر، ليعيدوا صياغة ما تهدم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، هو في جانب منه قد يكون صحيحًا عن رغبة بوتين بذلك، بل من المرجّح أن هذا الجنون في استخدام الأسلحة الحارقة والقنابل العنقودية على مدار الساعة بحلب، ثم الصواريخ الارتجاجية، يشير إلى استعراض للعضلات تريد صرفه بالسياسة، لكنه يدل أيضًا على عدم إدراك بوتين بأن من يراقب ولا يكترث للضحايا المدنيين، وبالذات أميركا ومراكز بحوثها، ستسخر من ذلك الفعل، كونه يؤدي مفعوله على خصم أعزل، وليس سلاحًا مقابل سلاح، أو في معركة صعبة؛ لتحصد نتائج مثيرة، فانتصار النار والبارود على الأحياء، هو هزيمة، وتدل على عجز وفشل ذريع، وبالتالي؛ فإن أميركا لا تعط لهذا الموضوع أهمية في أي مباحثات أو اعتراف بدور روسي فاعل، فلديها السلاح الأهم وروسيا لن تتورط معها، ومن هنا نفهم عدم التزام الروس بتعهداتهم الخاصة بالهدنة، لتأتي ردة فعلهم كالولد العاق الذي يصرخ من الألم فيحطم أي شيء أمامه.
هل هنالك أسلحة جديدة أكثر انحطاطًا
الحرب الباردة إن كانت تجري، فهي من أميركا نحو روسيا، مترافقة مع ابتسامات كيري ربما، لكن روسيا تقوم بحرب ساخنة على أكثر من ميدان، فقد اقتطعت من أوكرانيا جزءًا، وتثبّتت قاعدة حميميم العسكرية في جبلة، وتقوم بتوسعة رصيف بحري خاص بها في طرطوس، وتلقي الحمم في حلب وغيرها، وكانت حصيلة جرائمها، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، خلال سنة من تدخلها، أكثر مما قتل تنظيم الدولة (داعش) من المدنيين منذ الإعلان عن تشكيله عام 2013.
وزير الدفاع الأميركي، آشتون كارتر، قال أخيرًا: إن روسيا بوجود بوتين تبعث على القلق، من احتمالية استخدام السلاح النووي، أكثر مما كان الاتحاد السوفياتي السابق، ويُشار هنا إلى أن بوتين أعلن، عند ضمه جزيرة القرم، أن روسيا مستعدة لاستخدام السلاح النووي، والملفت حاليًا أن كارتر صرّح بأن أميركا ستبدأ بإعادة الاستثمار في الردع النووي، وتعمل على امتلاك أنواع جديدة من الصواريخ بعيدة المدى، وكذلك الغواصات النووية، وهذا يدل على أن الأمور قد تعود بنا إلى منتصف القرن الماضي للأسف.
واضح بأن ما يجري في سورية، أصبح المرآة التي تعكس النيات الأبعد لعدّة دول، لكن بالنسبة لروسيا أصبح هو الواقع وليس المرآة، والقلق بعد هذا الاستهتار بالقيم والقوانين، وكذلك عدم حصولها على مكاسب مهمة حتى الآن، أن تستمر بجعل سورية حقل تجارب، لتستعمل أسلحة نووية من نوع ما، أو ربما أسلحة أكثر قدرةً بل وانحطاطًا، من كل أنواع الأسلحة الفتاكة عبر التاريخ، لتثبت أن الإنسان يبني التاريخ؛ مستندًا إلى القتل لا على القيم والبناء، وخاصة عندما يأتيه قادة دول على وزن بوتين.