نحن الأحياء، بينما نسمع اختناق المرآة من فرط سعادتنا، المطر يتكسر على العتبات، القطط الجائعة تشم الجرائم، وتتبع معدة سيارة متخمة، أرحام تتمزق وأخرى تأكل الفستق قبل أن تغط في نوم عميق، أخبار عاجلة في شريط الأخبار، وفي قناة أخرى، يقف الجميع خاشعًا للنشيد الوطني.
لا يفصلنا عن الموتى شيء يُذكر، ليس هناك ما يستحق؛ حتى أن نفتح نوافذنا له، ونصرخ تحت ضوء القمر: ليتكم كنتم هنا، ليتكم بيننا الآن.
لا فرق بين بيتي وتلك البيوت المهدمة على طريق المطار، الأغصان المتكسرة تستنجد بالنار أن تخلصها من ألمها الطويل، كنت أهمس للسائق ألا يسرع، أكلم البيوت سرًا، رأيت الخريف يبتعد، وساق طائر تتدلى فوق منشر الغسيل، الشرفات على الأرض، والوسائد تمنت أمنيتها، ونفخت ريشها في الهواء.
قبل الموت، قبل الدعابة الهيستيرية، قبل أن تحاول احتواء الفراغ بذكرياتك القاحلة، قبل أن تطلق الحدود صفيرها، جاءت دمية صغيرة إلى الحياة، ونكشت كل ذلك، أرادت أن تلهو فحسب.
أملأ ثقوب الجدران بأسراري، سأقول شيئًا لها، لا تسرع أيها السائق.
إسمنت متآكل، أضلاع حديدية برزت كصلبان نحو السماء، خرطوم مياه أزرق تدلى من إحدى النوافذ، ساحبًا معه أصيص نبتة كبيرة، زجاج مكسور يلمع في البعيد، يمنعني من التفكير أكثر، كم يشبه جسدي وبيتي ذاك المشهد السريع.
أنا -أيضًا- بلا ضيوف وزوار، لم أقلم أظافري منذ مدة طويلة، الغيبوبة قيح على اللون الجاف، بعضها تهشّم، والآخر صار أقسى من عقارب ساعتي، وهي تدخل في يوم جديد، لا طلاء أظافر يغريني؛ في الليل تبدو أظافري أغصانًا متكسرة على طريق المطار، وفي الصباح أتخيلها سكاكين حادة.
أعرف وجهي من ظهري، نصف استدارة مقابل المرآة، أختار بسهولة ثيابي، الخدوش الصاعدة والهابطة عليه، حديث أظافري الطويل مع الجدران، تشبه كثيرًا سؤال صديقتي اليوم: متى ستنتهي الحرب؟
كعب قدمي خشن وذو ندبات، كأرض معركة خاسرة.
هل كنت أمشي في منامي حافية على الدوام فوق أرتال البيوت المهجورة تلك.
هذه الطريق ليست لخطوتي، لن أشتري حجرًا وأدلك به النتوءات العالقة بالشرشف القطني، كل ليلة.
أسمع عظامًا ترتجف في ذاك الاحتكاك، أنام لأرى كل ما جرى لفسحة الدار، للسلالم الخشبية المرفوعة فوق الأشجار، للثياب المطوية على الكرسي الهزاز، تستمع لنشرة الأخبار المسائية، للعافية، للأرق، للرسائل، للمزهريات، للأفكار المجهزة، للأفكار المحتفية ببعضها حول كأس نبيذ.
لكن على جلدي أن يصبح قابلًا للموت أكثر، لقد غيرنا البيوت والأغنيات، ومن فرط الغياب صار للغبار أنياب تعض كعب قدمي، أين سأمضي؟
سأترك للحرب صناعة قدميّ من جديد، سأترك لدوائر الغيم فوق الحقائب، إيصال خوفي إلى البحر.
ممددة كرصاصة فارغة على السرير، ركبتي سيارة صدئة مرميّة في أول المدينة، يلعب بها الضوء أحيانا وتختبئ في تجويفها العاري كلاب المدينة الشاردة، والعاطلون عن العمل.
الشرايين خلفها تتنفخ أحيانا، لونها الأزرق دموع مخزّنة.
وسط ساقي شعرة واحدة مقلوبة إلى الداخل، لن أغرس ظفري في اللحم بقسوة لأخرجها، إنه قبر جميل أليس كذلك أيها القمر؟ تخيلته هكذا، بينما انخفضت الطائرة الحربية صوب بيتي ومضت.
أغير وجهتي نحو الشرفة، ماذا يحدث في الخارج؟ عربات تبيع الرمان والعنب الجبلي، أطفال يتبعون الأم، الأم تتبع الأب، الأب يبتعد وحيدًا شاردًا في الزحمة، جلبة في الركن البعيد، أتذكر زهوري اليابسة وخرطوم المياه الأزرق في ذاك البيت المهدم، سأكون صاحبة ذاك البيت، وأنا أسقيهم، أظنها كانت عجوزًا في يدها مسبحة صغيرة، تتمتم وتصلي عندما تتفتح زهرة، أظنها كانت تبخّر نبتاتها أيضًا.
حقائبي ليست ملونة، كأن من اشتراها أحد غيري، أظن أني كنت أمي عندما اشتريتها، جيوب كثيرة وأزرار هنا وهنا، سحاب مخفي خلف البطانة، جيب صغير آخر خارج الحقيبة، الجيوب تعطي أمانًا أكثر، تنسى بعدها أن تشتري حقيبة، إنك تبحث عن وطن فحسب.
مرطبات للجسم تعلّم الوهم أن يداعب قطته صباحًا، وهو يغلي قهوته.
مزيل ماكياج يعيد فكرةَ الانتحار إلى الأريكة، والاسمَ الحقيقي إلى الهواء.
مستحضرات بـ “الكولاجين”، تشد الكذبة بابتسامة ميتة، تشبه تلك التي نودع بها أحدهم.
زجاجة عطر لصديقتي في المنفى، وشاح من الصوف الرمادي مع صندوق خشبي مقفل، أرسلها صديقي معي من بيروت، قبل أن ينقله القارب إلى ضفة وأصدقاء جدد.
القليل من النقود في جوف آلة العود، صديقي الموسيقي لم يشترِ عودًا جديدًا في ألمانيا، في آخر مكالمة هاتفية معه أخبرني أنه لا ينام.
في بيتي خدع كثيرة، تصلح لمسرحية في الهواء الطلق، أغراضي المنتهية الصلاحية، وأغراض أصدقائي المتجمدة، سيكون لها عنوان وحيد فقط (سورية).