مقالات الرأي

الشعب الآخر

نشرت صحيفة “الأخبار” اللبنانية، قبل أسبوع تقريبًا، مقالًا تذكّر فيه بآخر إطلالات الشاعر السوري أدونيس. كانت الإطلالة الأخيرة -تلك- في شهر أيار/ مايو الماضي، خلال محاضرة حول العنف والإسلام والعلمانية، أُقيمت في العاصمة البلجيكية بروكسل، والمقال لا يرتجي مجرّد التذكير بإطلالة ثقافية، وجدل جرى بين أدونيس وصبية سورية معارضة، بل ينطوي على رغبة لا تخفت لدى إعلام النظام السوري وحلفائه، بتذكيرنا بمبدئية رأي الشاعر الكبير أدونيس، بأن الزمن الذي يراهن كثيرون عليه ليس كفيلًا بتغيير شيء! فيصبح رقم واحد مثله كمثل المليون؛ قتيل واحد أو مليون قتيل، لا فرق، مُهجّر واحد أو ملايين المُهجّرين، لا فرق، برميل أو مليون برميل، قاتل أو مليون قاتل؛ كل تلك الأصفار بين الواحد و”الأبد”، لا تعني شيئًا، والزمن الذي تعوّلون عليه ليس سوى حليف لنا؛ لنُراكم جثثكم ونتأمّل تعفّنها، ونشمّ ما تبقى من روائحكم في بيوتكم المتروكة، و”كلمة الثورة صارت مبتذلة في بلادنا”، كما قال أدونيس في بروكسل ذلك اليوم، و”الثورة لا تخرج من الجوامع”؛ حتى وإن لم ينج ولا جامع واحد من الدمار.

آراء أدونيس ثابتة، لأنه مفكّر وحكيم، والتراجع عن آراء مدروسة مسبقًا بعمق، لا يليق بمقامه. لكنّه؛ إذ يُقدّم نفسه على الدوام كشخصية أعلى شأنًا من باقي السوريين، من شعراء إلى أدباء إلى فنّانين إلى سياسيين إلى ناشطين، إلى أشخاص عاديين، عليه ألا ينسى أن يكون أعلى شأنًا من “الرئيس المنتخب” نفسه.

ثم، ليس على النخبة أن تتحدّث باسم الشعب، فالشعب لا يليق بها، وقبل سنتين أو ثلاثة، رأى أدونيس أن المشكلة في سورية ليست في النظام السوري، ولا في إجرامه، بل في الشعب السوري، وإن كان لا بدّ من تغيير أحدهما، فلنغيّر المجتمع، الشعب. وهو في فكرته تلك، يبدو وكأن اجتماعات مُطوّلة عُقدت بينه وبين النظام السوري؛ للتخطيط لكيفية حل هذه المشكلة العويصة؛ فما كان من النظام السوري، المعروف بحرصه الكبير على “احتضان” الثقافة والمثقفين، إلا أن أصغى وتعلّم واستجاب، وراح يقتل ما استطاع إليه سبيلًا، ويُهجّر ويُعذّب ويطرد؛ لأن المشكلة الأساسية تكمن في وجود هذا الشعب الذي يُصرّ على الخروج إلى الشارع، والأنكى أنه لم يخرج إلى الشارع من أبواب البيوت، بل من الجوامع! عندما كان للجوامع حرمة ولم تكن تقصف بعد.

ليس على النخبة أن تقول: إن “الثوّار جاؤوا من مختلف دول العالم، وهؤلاء مرتزقة. أما الشعب، في العمق، فلم يخرج، وبالتالي كان ضحيّة”. ولا نعرف هنا من الشعب المقصود في العبارة، هل هو ذاته الذي دعا أدونيس قبل سنوات إلى تغييره؟ أم أنه شعب جديد ينتمي إلى النخبة أيضًا، ولا يعلم بوجوده إلا من ينفي عنه شجاعة الخروج! وليست العبارة تلك إلا تكريسًا للفكر الجمعي الذي تمرّد عليه أدونيس دائمًا، حيث الشعب هو أداة وضحية، وسلاح مأجور يتطاير بين “الأيدي الخفية”، الشعب ليس في مقام يتيح له أن يبادر، أو يخرج أو يكتب أو حتى أن يصمت! والعكس لا يقال! إذ لم نسمع الشاعر يتحدث، ولا مرة واحدة، عن “الشعب الآخر”! الشعب الذي يوالي نظامًا قاتلًا، وينظم له الأشعار، ويتغنّى بجرائمه ويغني له “منحبك منحبك”. وفي غياب “الشعب الآخر” عن خطاب أدونيس تأكيد غير واع، ربما، لفكرة أن الشعب السوري هو الشعب الذي خرج وتمرّد وقُتل وعُذّب وقُصف وهُجّر، وهذا التأكيد القادم من منطقة اللاوعي، يعيد بعضًا من حق الشعب السوري في الاعتراف به كمواطن، وليس كضحية وأداة!

“الأخبار” وجدت أن كلام أدونيس يخلو من مواقف جديدة، إلا أن الحوار الذي دار بينه وبين حاضرين حمل آراءً لافتة، ومن الآراء اللافتة تلك قوله ردًّا على سؤال عن رأيه بجيل الشباب النشِط على مواقع التواصل الاجتماعي، والذي يبوح بإلحاده فيما يشبه الثورة: “أنا شخصيًا أضع هؤلاء الشبّان في طليعة التحوّل (…..) الإسلام بلا ثقافة، والإلحاد خطوة أساسية في التحوّل الاجتماعي والثقافي والإنساني”. أن يُحكى عن ضرورة مراجعة الدين الإسلامي “المُنزّه” عن المراجعة منذ مئات السنين أمر، وأن يُربط التحول الاجتماعي والثقافي والإنساني بالإلحاد، أمر آخر، وليست مشكلة منطقتنا أبعد بكثير من مطالبة المفكّرين والمثقفين بفصل الدين عن الدولة، وبالإلحاد في الوقت ذاته! ليست المشكلة أبعد من أن المتنوّرين فكريًا، يمارسون الإقصاء عينه الذي يمارسه المحافظون!

الإيمان بالحرية سبيلًا وحيدًا للخلاص، يقتضي احترام حرية الجميع في التعبير عن الرأي والفكر والمعتقد، لكن كيف لامرأة ملحدة، أعرفها جيدًا، خُطف زوجها وابنها وابنتها ووالدها، أن تصدّق أدونيس وتكذّب عينيها؟

مقالات ذات صلة

إغلاق