لم تكن تربطني صحبة بيوم الجمعة.
كانت عطلتي في المدرسة يوم الأحد، عكس معظم الناس في سورية آنذاك. كل الأولاد المسلمين يتغيبون عن المدرسة، التي تقع في حيٍّ مسيحي، يوم الجمعة؛ فـ “السيران” كان أحد التقاليد الاجتماعية للناس، وبخاصة في أيام الربيع حين يتفتق الزهر من الشجر وتتفجر الحياة من كل شيء؛ إلا أنا، فأمي مديرة المدرسة، ويجب أن أرافقها “على الدعسة”، علاوة على أنني يتيمة الأب، فلا سيارة ولا “سيران”.
كبرت وبقيت على عداء مع يوم الجمعة؛ يوم العطلة الذي تؤجل الأمور طوال أيام الأسبوع؛ لتُعمَل فيه دفعة واحدة، يخنقه الدمشقيون بالمشروعات، ينامون فيه للضحى، ويفطرون -في وقت متأخر- الفول و”التسقيّة”، ويذهبون مساء إلى عزائم الغداء؛ ليملأوا بطونهم التي لم تهضم الفطور بعد، وفيه –أيضًا- كانوا يغسلون ويطبخون ويتحممون ويتزاورون، كل ذلك في يوم واحد، لا يكفي –أحيانًا- لعبادة الله على مهل أو قراءة سورة الكهف.
وإذا كان موسم الربيع؛ فلذلك حديث آخر، يقطعون المسافات مع عدّة الشواء والكراسي و”الأراجيل” وطاولات الزهر، ويدورون في الغوطة ساعات، بحثًا عن بستان يسمح لهم صاحبه بالدخول؛ ونصب “المنقل”، وإشعال الفحم. وإذا كان موسم الثلج، يتحول الطريق إلى صيدنايا، وفي الصيف إلى بلودان، وزحمة زحمة زحمة زحمة.. والكل على استعداد للتحمّل؛ حتى لا يضيع يوم الجمعة هباءً.
يوم الحشر والنشر و”اللّبكة”؛ يوم اللا راحة.
ودارت الأيام، واشتغلت بعمل لا يلتزم بروتين يومي أو أسبوعي، “نوباتشية”، جدول مناوبات، جدول دوام متغير، لا عطلة أسبوعية فيه ولا إجازات أو عيد، مذيعة في تلفزيون الكويت، منوعات لترفيه الناس، وثقافة للمهتمين، ولاحقًا نشرات الأخبار. ينشط عملي عندما يجلس الخلق في البيوت، ويحين موعد استقطاب عيونهم إلى الشاشة، وأقبع في البيت -في يوم عطلتي- عندما يذهب الجميع إلى أعمالهم، وتنخفض نسبة المشاهدة.
كان يوم الجمعة يضايقني حين أضطر لترك عائلتي في يوم عطلتهم، وإذا كان الطقس مشمسًا باعتدال، وحالة البحر رائقة ومدّه عالٍ، ينقبض قلبي في طريقي –باكرًا- إلى العمل؛ والسبب أن كل الأنشطة الاجتماعية والسهرات والزيارات تُرتب لسهرة الخميس؛ حين يتمكن الجميع من تعويض النوم، مهما طالت ليلتهم ساهرين، وغالبًا، ولأجل الصدفة المقصودة، وسوء الحظ بقدرة مراقب الدوام وسلطته يوضع اسمي، في مناوبة ليلية، الخميس، أو مناوبة صباحية، الجمعة، فتفوتني الدعوات والحفلات وأعياد الميلاد، وزيادة في قهري، فإن صور المناسبات كلها، ينقصها حضوري بين الأصدقاء!
ثم قامت الثورة السورية؛ ليصبح يوم الجمعة من أجمل أيام حياتي.
صرت أنتظره منذ الصباح، وكأنني طفلة، وكأنه عيد؛ أفتح التلفزيون، أترقب المظاهرات مذ كانت طيارة وصغيرة ومرعوبة، ومسلحة بشجاعة شباب فهيم عاقل سلمي، وحالم ومنفتح على دنيا غير دنيانا الخانعة المحكومة بالخوف؛ شباب يحب أن تصبح بلده حرة طليقة ورياديّة؛ شباب يشعر بأن قيمته ليست أقل من غيره من خلق الله، في العالم المتحضر؛ شباب يريد أن يتخلص من حكم مشوه مثل مشية غراب متنكر، على رأسه عرف ديك، وذيله ذيل طاووس؛ حكم جمهوري لعائلة مافيا مالكة، تتوارث الأرض ومن عليها، طوّبت البلد باسمها، وأخّرته خمسين سنة؛ بلد يتلاشى كالدخان الذي يُرى من بعيد، ويخلّفه قطار المستقبل، صدعوا الرؤوس بحجج واهية: المقاومة والممانعة والميزانية الحربية والوحدة والاشتراكية والحرية!!!
صار السوري يحسَب أن نافذة ماكينة “الصراف الآلي”، التي وصلت البلد متأخرة عن كل بلدان المنطقة، هي الإصلاح والتطور الاقتصادي والنهضةً العمرانية التي هلَّت علينا مع طلة بشار الأسد، و”مول” التسوق العفن، المبني بالأموال المغسولة، لكن البلد صار بشعًا، وعشوائيًا، فقيرًا وهزيلًا، وصار الناس ثلاث طبقات: غني ومعدم وحرامي.
صار يوم الجمعة يومًا حلوًا جدًا؛ إذ كنا ننشغل بالتصويت لنسميه: جمعة الكرامة، الجمعة العظيمة، جمعة الغضب، جمعة آزادي، جمعة إرحل، جمعة صمتكم يقتلنا، جمعة الموت ولا المذلة، جمعة وحدة المعارضة، جمعة المنطقة العازلة مطلبنا، جمعة الزحف إلى ساحات الحرية، ثم بدأت الأسماء تأخذ منحى آخر، جمعة دعم الجيش الحر، جمعة عذرًا حماه سامحينا، جمعة روسيا تقتل أطفالنا، جمعة سننتفض لأجلك بابا عمرو، جمعة خذلنا العرب والمسلمون… لكن الأسماء والأحداث بدأت تخيفنا، مع اشتداد الحرب، وذهاب الصوت في صمم الصمت: جمعة من جهز غازيًا فقد غزا، جمعة خبز الدم، جمعة لن تمر دولتكم الطائفية، جمعة أسلحتكم الكيماوية لن توقف مدّ الحرية..
وعلى الرغم من كل الخلافات؛ وحتى عندما لم تعد أسماء الجمعة ترضينا، كنا نعلم أن هذا هو الطريق الملائم للتغيير بالكلمة والتشاور والنقد والأخذ والعطاء، كنا نتعلم ألف باء الديمقراطية، ونتعلم كيف يعلو صوتنا قليلًا؛ لنقول شيئًا مختلفًا عما هو مخزّن في ذاكرة الببغاء. في أيام الجمعة، وفي الأشهر الأولى، استشهد أغلى الناس وأشجعهم، وتعرفنا بسرعة كبيرة على آليات القتل والاعتقال، وعلى إعلام الكذب والتلفيق وشهادات الزور، وعلى المؤامرة الكونية المزعومة على النظام، وعلى المؤامرة الحقيقية المحبوكة على الشعب السوري الأعزل. في أيام الجمعة صارت الجغرافيا معرفة مدهشة للسوريين، تعرفنا على أسماء مدن وقرى وحارات؛ ربما تكون على طريقنا ووراء بيوتنا ولم نسمع باسمها يومًا، ولربما مررنا ألف مرة من المكان، ولم يكن هناك لافتة على الطريق تهدي إليه.
في أيام الجمعة صار إسم سورية يلمع بحقيقته، بناسه وبملامح أهله، بعيوبهم وبأخطائهم ومصيبتهم الكبيرة التي صبروا عليها وعالجوها بملح السنين، وكبسوا عليها حجارة الصمت والألم. كنت أسافر إلى بلدان الدنيا وأقول لنفسي: لماذا تبدو وجوه السوريين كالحة؛ وأينما ذهبوا يحملون كبرياءً جريحًا وحنيةً في الظهر؟! لماذا يؤخذ أول انطباع عن السوري بأنه عصبي ونزق، شغّيل وأنفه في السماء، وعنده “شوفة حال” مستفزة، مهما كان فقيرًا ومعدمًا؟ وكلما برزتَ في مجتمع الغربة يستغربون أنك سوري! وإذا قكروا من تكون، ذكروا كل جنسيات المنطقة قبل أن يفتحوا أفواههم وينطقوا بدهشة: أنت سوري!!! وكأنك اكتشاف.
من الذي ألبس السوري طاقية الإخفاء وجعله متواريًا وغير مرئي؟
لماذا لا يصفونه بأن دمه خفيف، ولا يعترفون بأن السوري يحب الفرح والانبساط؟
كيف لا تدور الكواكب على إيقاع السوريّ، ولديه في تراثه من أنواع الدبكة أكثر من أنواع التفاح في العالم: (الدبكة الغربية، اللوحة، النسوانية، الطبيلة، البداوية، الدندشية، النشلة، العثمانية؛ في حوران وحدها هناك الجوفية والحورانية والفلسطينية والشمالية والدّرّازية والميجة والسحجة، وفي حلب -أيضًا- الولدة والقبا والشيخاني، القوسر والطقأزلي والدملي والحلبي والعربية والغزاوية والصاجيّة، وفي الريف الدلعونا والمثلثة الطرطوسية وكرجة الشيخ بدر وكرجة زيدل ودبكة الدلعونا ونخّة الشيخ بدر، والشبة والدراجة الرقاوية، والماني الديرنجية، ودبكة حران العواميد، ودبكة الحنة الحورانية.
وراء كل شجرة مغروسة في التراب السوري خطوة لدبكة جديدة، أو لحن حزين يرقّص أهداب الغيم.
وراء كل تقليد ألف أسطورة قطعت طريق مئات الحضارات؛ لتأخذ شكلها وطقسها.
خرج الناس في المظاهرات يتكاتفون، مثل أمواج حُرّة تتلاطم بصخور الديكتاتورية؛ تتكسر وتعود أقوى.
كل جمعة كانت فرصة للتفكير، وكل جمعة تكبّر القلب وقائمة الأصدقاء، ثم صار الموت كثيرًا، ودمرت البيوت والمدن والجسور، ومات الرجال والشباب والأولاد، وماتت الأمهات والبنات، ومات الصحافيون الشجعان وماتت الكاميرات وحتى نحن متنا وكلما ابتعدت الكاميرا عن المشهد السوري نموت.
بات عرس أمير يغطي علينا، مباراة، أولمبياد، مظاهرة في بلد آخر، حلقة من برنامج مواهب، أتفه شيء يمكن أن يعيد العنوان السوري إلى الوراء. كل شيء يستهدفنا بغارة: الكذب والتشويه والتزوير والتدليس والترقيع والتحليل… سورية تموت والعالم يتابع سيره وحدوثه ببلادة واعتياد، والنسيان يتابع مسحنا من ذاكرة الرأي العام.
عشنا أيام جمعة، استعادت طعمها وفرحها ومعناها الخلاق بأمواج حمص وصوت الساروت، بأطول علم بحماه بكامل النجوم وأغاني القاشوش، بلافتات كفرنبل التي كانت مخرزًا في العيون الوقحة، مشاغبات الشام، مياه النوافير الحمراء ومكبرات الصوت بدوائر الدولة والمنشورات الأنيقة، والغرافيتي الليلي، والرجال البخاخون الشجعان، والمظاهرات المثقفة والمتحدية، وكل تشييع بهي في أيام السبت النيرة التي تعقب كل الجمع المجيدة.
اليوم في كل جمعة يرتفع فيها صوت خطيب الجامع؛ ليذكر الناس بالله. فينبعث الصدى من الميكروفون؛ والميكروفون في الأصل جهاز لرفع الصوت، لكن الخطيب يصرخ، يصرخ غاضبًا بنبرة تهديد ووعيد، يحمل الهواء كلامه ارتجاجًا في زجاج الباب والنوافذ، ويبدو الكلام فقاعات تتفجر بالإبهام والغموض.
ينتهي “الويك إند” في دبي، لا أحد يقرع الباب، لا شيء سوى الدم والخيبة والظلم والمماطلة في الخبر السوري. يا جمعتنا السورية ارجعي، يا أغلى أيام جمعة في حياتنا، يا أيام الجمعة السلمية المباركة، صالحينا على الأيام وصالحينا على الأمل. هل بقي ناس لموكب الحرية والسلام؟
عيوننا على الأنقاض من سيخرج حيًا هذا المساء؟