تحقيقات وتقارير سياسية

ما لم يقله الأميركيون في حلب… خفايا الاتصالات مع الروس

قد يُفهم على نطاق واسع أن “اصطدام” الجبارين في حلب، هو ما يدفع ثمنه السوريون الآن، بيد أن مالم “يقله” الأميركيون، يترجمه “التوحش الروسي “، في الأحياء والمنازل التي تستعر فيها نيران قنابل الطائرات، ويدفع باتجاه آخر، ولا سيما مع كشف الروس استمرار التنسيق بين الجانبين، وعلى مستوى عال، في إطار ما قالوا: إنها “مواضيع حساسة” تتضمنها وثائق الاتفاق “الروسي الأميركي” ولا يريد الأميركيون كشف تفاصيلها.

 

بداية، وفي المعلن، فقد بدا -لافتًا- أن ثمة خلافات قد طرأت بين روسيا والولايات المتحدة، على خلفية ملف القضية السورية، وصلت إلى حد توترٍ قد تقوده تصاعد التصريحات والاتهامات المتبادلة بين الجانبين إلى نقطة اللاعودة في علاقاتهما، ولا سيما بعد فشل الهدنة التي أقرتها إحدى وثائق الاتفاق “الأميركي الروسي” الخمس، والتي ترافقت مع نعي روسيا -مباشرة- لها، وعلى لسان متحدث باسم جيش النظام.

 

وفي العلن -أيضًا- يشتكي الأميركيون من عدم تنسيق روسيا معهم، ويقولون: إن عملياتها في سورية تجري بشكل منفرد، وتقول الخارجية الأميركية في بيان لها على لسان المبعوث الأميركي إلى سورية مايكل راتني: ليس هناك اتفاق بين واشنطن وموسكو لاستهداف المقاتلين في حلب، أو لإجلائهم من المدينة، ولا يوجد تنسيق عسكري بين الجانبين.

 

الروس من جانبهم يردّون ويؤكدون أن عملياتهم تتم بالتنسيق مع الأميركيين، ويقول المبعوث الرئاسي الروسي ميخائيل بوغدانوف لقناة “روسيا اليوم”: “هناك اتصالات يومية، وعبر قنوات مختلفة، تجري بين الجانبين، خاصة في إطار مجموعات العمل المشتركة الموجودة في جنيف، وأيضًا بين قاعدة حميميم الروسية وبين العسكريين الأميركيين الموجودين في عمان”.

 

ويضيف بأن مجموعات العمل، ومنها مجموعة “وقف العمليات العسكرية”، و”مجموعة حل المسائل الإنسانية”، تُناقش بشكل دائم الوضع على الأرض من خلال متابعة الخرائط وتبادل المعلومات، حيث ينضم أحيانًا إلى خبراء الجانبين العسكريين ممثلون من دول أخرى.

 

ما يبدو خلافًا بين الروس والأميركيين

النقطة الرئيسة لما بدا أنه خلاف بين روسيا والولايات المتحدة، تتعلق بمتطلبات الهدنة أو ما تسميه الوثيقة التي سربتها موسكو من الاتفاق الأميركي الروسي “أبرز هذه المتطلبات”، وهي “أن تقوم واشنطن بإقناع المعارضة المعتدلة خلال الهدنة التجريبية، والتي كان مدتها سبعة أيام، بفك ارتباطها مع الإرهابيين”، بحسب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.

القنابل الفوسفورية والعنقودية والارتجاجية التي تماهت مع هجمات قوات النظام، وأعلنت “أنها ستحرر حلب من الإرهابيين” خلال أسبوعين، كشفت حقيقة هذه الكذبة التي تؤكد أن روسيا لا ترى “معتدلين”، لا في حلب ولا في غيرها، بل ترى -كما النظام- أن كل من وقف في وجهه فهو إرهابي.

يُحاول الأميركيون ذر الرماد في العيون، والتعمية على ما يمكن أن يراه المتابعون ردًا متوقعًا منهم على الروس، من خلال تعاطف كيري مع محنة السوريين، وإحباط الرئيس أوباما من غدر الروس له، كما نُقِل عنه، بيد أن كثيرًا من السوريين محبطون، ليس بسبب غدر الروس للأميركيين، المشكوك فيه طبعًا، بل نتيجة مواقف الأميركيين إزاءهم طوال سنوات الثورة.

 

مبررات الأميركيين

يُبرر الوزير كيري عدم قدرة بلاده على كبح جماح الروس، أو التدخل العسكري في سورية بقوله، من خلال التسريبات الشهيرة لحديث أدلى به لمعارضين وناشطين سوريين، نشرته صحيفة (نيويورك تايمز) الأميركية: إن أميركا ليس لديها العذر القانوني للتدخل العسكري في سورية، بينما روسيا تمت دعوتها من نظام الأسد. لكن ما يُكذّب هذا الكلام هو تاريخها في التدخل الأميركي في أكثر من مكان، وأن القانون الدولي يسمح بالتدخل لإيقاف المجازر، ومنع استخدام الأسلحة المحرمة دوليًا.

 

وفي حين قال الرئيس أوباما: إنه يريد حلًا في سورية، لكن دون إرسال قوات أميركية إليها، فإن كيري يوضح ذلك بقوله: “صحيح إن عدم اكتراث الأسد بأي شيء قد يدفع إدارة أوباما إلى التفكير في خيارات جديدة، ولكن أي جهد أميركي آخر لتسليح المعارضة، أو الانضمام للقتال، قد يؤدي إلى نتائج عكسية”، وأضاف: “بشكل صريح، ليس في حوزتنا سوى (الفيتو) الروسي أو الصيني في مجلس الأمن الدولي، إذ إن السوريين لم يعتدوا علينا، وبلادنا غير مدعوة إلى سورية، الأمر الذي يستثني شرعية تدخلنا العسكري في سورية”.

 

وسبق للرئيس الأميركي باراك أوباما أن صرّح بأن تقديم دعم أكبر للمعارضة السورية المسلحة “لن يُسهم في وقف الحرب الأهلية في سورية”، وأنه لا يتعين على بلاده أن تلعب دور الشرطي في بلدان الشرق الأوسط، كأفغانستان والعراق واليمن والصومال.

وأضاف: “المشكلة تكمن في الدعم الذي يحصل عليه النظام السوري من روسيا وإيران؛ الأمر الذي سيعني انتهاكنا القانون الدولي إذا ما تدخلنا مباشرة، وأرسلنا قواتنا إلى سورية، فضلًا عن التصعيد الذي كان له أن يحدث، والصعوبات التي ستواجهها الولايات المتحدة، سوف تظهر في جميع أنحاء العالم المشكلات التي لا تهدد أمننا مباشرة، فيما لا يمكن للحل أن يتمثل في تدخلنا أينما كان، وإرسال قواتنا إلى حيث كان”.

 

يؤكد كيري، الذي سرعان ما خرج من إطار إبداء تعاطفه مع السوريين؛ ليقول: إن بلاده لن تدعم فصائل الثورة السورية بأسلحة نوعية، ولا تسمح لغيرها بتقديم السلاح في الحرب ضد ميليشيا حزب الله أو الميليشيات الطائفية الأخرى القادمة من أفغانستان والعراق وغيرها، ويبرر ذلك بقوله: إن هذه الميليشيا لا تستهدف أميركا، ولا تُشكل خطرًا عليها، بمعنى آخر إن الإدارة الأميركية لن تُساهم في مواجهة نظام بشار الأسد أو ميليشيات إيران.

 

يشدد كيري -في المقابل- على أن الولايات المتحدة تريد من الثوار مشاركة بلاده في حربها على تنظيم (الدولة/ داعش) الإرهابي، الذي “يُقاتل الثوار بالأساس” وجبهة “فتح الشام”، التي يُصر على تسميتها بالقاعدة، لأن هؤلاء يُمثلون خطرًا على الأميركيين كما يرى، لا بل زادت واشنطن على ذلك فصيلًا آخر هو “جند الأقصى” الذي شارك في معارك تحرير عدة قرى شمال غرب حماة أخيرًا.

 

مواضيع حساسة تقلق الأميركيين

ما يبدو مُقلقًا للأميركيين، ليس ما يفعله الروس، بل ما يُريد أن يكشفه الروس، ويقول بوغدانوف، بحسب المصدر السابق نفسه: “إن الولايات المتحدة ترفض الكشف عن الوثائق الخمس التي تضمنها الاتفاق بين الجانبين، على الرغم من أن دولًا عظمى طلبت أكثر من مرة اطلاعها على مضمون تلك الوثائق”.

ويضيف: “صحيح أن الوثائق تتضمن مواضيع حساسة، لكن روسيا لا تستطيع تفهّم عدم رغبة الأميركيين بإطلاع الرأي العام على بنود الاتفاق بشكل كامل، بل يكشفون هم بعض البنود ولا يريدون كشف بعضها الآخر، وهم يتهربون بشكل دائم، ولا يريدون أن يعرف الآخرون ما اتفقنا عليها بالضبط”.

ويكشف بوغدانوف عن أن الاتصالات الروسية – الأميركية، لم تنقطع للحظة منذ أكثر من عام، وتجري على أعلى المستويات من خلال تبادل الآراء والتنسيق بين الرئيسين، بوتين وأوباما، وبين وزيري الخارجية، لافروف وكيري، إضافة إلى الاجتماعات المستمرة للخبراء العسكريين من الجانبين، وقال: إنه تم خلال هذه الاتصالات صياغة وثائق الاتفاق (الروسي – الأميركي)، والتي تم التوصل إلى آخر وثائقه الخمس في التاسع من أيلول/ سبتمبر الماضي.

 

خلافات تحت سقف الاتفاق

تبدو تلك التصريحات من جانب لافروف أكثر وضوحًا وترجمة لطبيعة المشادات، وما بدا أنه خلافات بين الجانبين، فالعودة إلى الاتفاق الروسي – الأميركي الأساسي، هو المرجعية التي تحكم العلاقات بين البلدين، ليس في ملف القضية السورية فحسب، بل في ملفات أخرى، مثل أوكرانيا وغيرها، وأهم عنوان في تلك المرجعية هو بند “محاربة الإرهاب” الذي سيتم ترحيل غيره إلى فترات لاحقة، فيما التطورات الأخيرة في حلب التي شهدت تصعيدًا روسيًا وحشيًا، تؤكد أن الولايات المتحدة تُحمّل فصائل الثورة المسؤولية عن عدم النأي بنفسها عما تعدّه، هي وروسيا، إرهابًا، خاصة مع (جبهة فتح الشام) التي أعلنت انفصالها عن تنظيم القاعدة رسميًا.

 

كما انتهت المشادات الكلامية بين كيري ولافروف، في الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن، إلى لقاء مُغلق بين الجانبين، اتفقا خلاله على مواصلة العمل بالاتفاق الروسي – الأميركي، بحسب ما أعلنته الخارجية الروسية، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبحسب المصدر نفسه، أوعز إلى وزارتي الخارجية والدفاع، بمواصلة العمل مع “الشركاء الأميركيين”، وقد جرى -لهذه الغاية- اتصال هاتفي بين كيري ولافروف، تم الإعلان على إثره أن وفدًا من الخبراء العسكريين الروس، سيتوجه إلى جنيف لمواصلة الاجتماعات مع نظيره الأميركي؛ لبحث الأوضاع في حلب وسائر المناطق السورية، وهذه الاجتماعات كانت قد بدأت بين الجانبين قبل بضعة أشهر، بمواكبة اجتماعات كيري – لافروف التي تمخضت عن توقيع الاتفاق الروسي – الأميركي.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق