قالت صديقتي، سأقرأ لك قصة، وبدأت بـ “شاحنة برلين”. ذهب عقلي فورًا إلى رجال تحت الشمس لغسان كنفاني، وإلى الشاحنة النمساوية التي كانت تقل سوريين حالمين، فصاروا جثثًا منقوصة الأعضاء؛ شاحنة برلين –أيضًا- تسرد وقائع تتكرّر بشاحنات أخرى، وتحمل سوريين، أفغانًا، باكستانيين، صوماليين…
حسن بلاسم -صاحب مجموعة ” معرض جثث”، عراقي عاش الألم العراقي بأكمله، والسوريون يعيشون الألم ذاته، وكذلك الأفغان؛ قصصه تغوص عميقًا في أشكال العذاب والخوف والقسوة والهمجية والقتل “المبدع”. تنتهي رحلة شاحنة برلين بموت الجميع، وخروج شاب منها، يتحول إلى ذئب يغيب في الغابة، ويحاول -في الجريدة العسكرية- توصيف كوارث الحرب، من خلال عدد هائل من الروايات التي تتوالى إليه؛ محرر الصفحة الثقافية ينتهز الفرصة، ويصبح روائيًا عبر سرقة تلك الروايات؛ الروايات ذاتها يسردها السوريون شفاهية، وقد قتلوا بكل أشكال الموت ومن كل الدول: من الإيرانيين وأتباعهم، من الروس والأميركان، ومن النظام أولًا؛ كما قتلوا من الفصائل المسلحة والإسلاميين، كل يوم يُدهشك داعش بقذارات فنون القتل لديه، وليس أخرها قتله لـ “الإعلاميين” في مدينة دير الزور، منهم من خُنق بسلسلة حديدية، وأخر فخخوا كامرته أو كمبيوتره المحمول، ومنهم من ذبح بالسكين.
في قصة “حقيبة علي” نتابع مصير عظام والدته التي ضاع رأسها، وهم يهرولون؛ مخافة أن تعتقلهم الشرطة، وهذا لوحده يوضح هواجس السوريين إزاء ماضيهم وقتلاهم، فهناك من لم يعثر له على جثة، أو لا يُعرف لها مكان، ولا بد من صلاة الغائب، أو لا يُعرف إن كان حيًّا ويكون الأمل أشبه بالموت اليومي، هذه القصة تَقرأ هاجس العلاقة بين انقطاع الصلة ومكان الولادة، والبلاد الجديدة التي يحاول أن يصبح فيها المهجّر مواطنًا، ولكن هيهات هيهات، فالسوريون أخوة العراقيين في المأساة، كما يبدو، وكثيرون يفكرون بالعودة أو الانتحار أو اللا جدوى.
وفي “كارلوس فوينتس” وهو اسم سليم عبد الحسين، الذي رغب بشدة أن يتخلص من كل روابط الماضي العراقي؛ بما في ذلك اسمه، لكن صديقنا كارلوس سرعان ما يغرق مجددًا في ماضيه، ويجده دائمًا أمامه في يقظته وفي نومه، فيفشل أخيرًا أن يصبح رجلًا هولنديًا، وتنتهي حياته بقفزة من الطابق السادس؛ لتدوّن الصحف “انتحار رجل عراقي -ليلًا- رمى بنفسه من الطابق السادس”! يا لتعاسة كارلوس! بقي ماضيه يلازمه ولم يتقبله الهولنديون؛ هذا شعور كثير من السوريين الذين يعيشون هناك؛ فلا هم قادرون على مغادرة سورية، ولا استقبال الحياة الجديدة! ربما لم يغيروا أسماءهم، لكنهم -بالتأكيد- سيأخذون جوازات سفر أجنبية، أي ستكون ولادتهم متعسرة.
في “معرض الجثث”، يعرض حسن بلاسم لمسألة غاية في الخطورة، وهي التمتع بإدهاش الناس بطريقة القتل المميزة، وأن تظهر الضحية بشكل لا يتوقعه العقل على الإطلاق؛ فمن شروط العمل مع عصابات القتل التوقيع على شروط معقدة، والانسحاب –أيضًا- يقتضي شروطًا معقدة، يريد الكاتب أن يقول: ليس من السهل أن تدخل عالم الإجرام وتخرج منه برأس، لا بد من قطع رأسك إن فكرت بذلك. هنا نجد الاستباحة المطلقة للبشر والتفنن بطرائق الموت. وهذا ما كان مصير أحدهم وقد رغب -لضعف فيه- سرقة جثة من المستشفى؛ فكان مصيره أن سُلخ جلده وعُلق على عامود من البرونز أمام وزارة العدل العراقية.
عالم الكاتب كثيرًا ما نقرأ في ميتات داعش خاصةً، ولا نعدم قتلًا قبيحًا بمعتقلات النظام، وبأيدي الحشد الشعبي في العراق.
في سياق القصص، هناك عَالم الكاتب خالد الحمراني، وهو الذي قضى حياته يكتب عن سوق شعبي، ويتكلم عن أدق تفاصيله، لكن خالدًا هذا -وبعد أن اشترى حذاءً لابنه الصغير- تمزق جسده -بفعل شاحنة مفخخة- إلى ثلاثة أجزاء، كل منها بجهة، ومع هذا عانت أسرته الأمرين لفك قبضته عن حذاء ابنه الجديد. يصور هذا عالم العمليات الإرهابية الذي يقضى على عشرات المدنيين وعلى أسرهم، حيث يُيتّم مئات الأطفال.
في “تلك الابتسامة المشؤومة” يسرد حكاية العنصريين الأوربيين ضد العرب، وتصبح ابتساماتهم، أو لنقل لون بشرتهم، سببًا لملاحقتهم والتنكيل بهم، وفي “الملحن” الذي ألف موسيقا ولحّن أغانيَ كثيرة لحزب البعث؛ ثم طُرد وكفر، يموت على يد المليشيات الكردية، لقد وجد فرصته الثمينة، حين هرب حزب البعث من بلدته؛ فدخل إلى الإذاعة، ووضع أغنية بعثية من تلحينه، كانت سببًا لدخول الكرد عليه وقتله.
في “أغنية الماعز”، يحكي قصة أسرة، أرادت تهريب ابنها من الخدمة الإجبارية، ومشاعر العم الموظف في الأمن، الذي يقوم بتهريبه -وهو يموت رعبًا من أن يُكشف أمره- لكن الشاحنة تنقلب بهما، ويعثر عليه الماعز وهي تحك جسدها ببرميل المخلل الذي وُضع فيه الشاب؛ كي لا يُشك بتهريبه.
في سورية عانى الأهالي الذين أرسلوا أولادهم إلى الخدمة، واحتمال القتل ماثل أمامهم، والذين منعوا أولادهم من مغادرة مخابئهم، أو الذين ابتكروا طرقًا لتأجيل الخدمة العسكرية وتهريبهم إلى خارج البلاد، خوفًا من موت أصبح عبثيًا، ولم يعد يحقق أي هدف وطني، صارت أفواج الذاهبين إلى الله من الشباب السوري، لعبة تتحقق من خلالها مصالح الدول الخارجية وأمراء الحرب والنظام ذاته.
في “المسيح العراقي”، ثمة شاب خدم طويلًا في الجيش العراقي، وكانت له إمكانيات غريبة، لطالما مكنته ورفاقه من النجاة من قصف الطائرات الأميركية، حينما غزا صدام حسين الكويت، المسيح هذا رفض مغادرة العراق، وتفرّغ للاعتناء بوالدته المُسنة، وحينما أخذها إلى المطعم لينزهها قليلًا، دخل شاب وجلس معه إلى الطاولة نفسها، وراقب كيفية اعتناء المسيح بوالدته، شبه الميتة سريريًا، فبكى الشاب، لكنه قال إنه انتحاري، ودعاه إلى الحمام؛ وهناك خيّره بين موت أمه، أو أن يفجر هو الحزام الناسف، فيقوم الشاب بإخراج والدة المسيح كي لا تموت، وينفجر المكان.
في “شمس وجنة” قصة جديدة، تحكي حكاية أم وابنتها، تنتظران عودة الأب للهرب، ولكن الأب يتأخر كثيرًا، فتقوم الأم بقتل ابنتها خوفًا من الاغتصاب، وتفقد عقلها من جراء فعلتها، وفي “شجرة سرسارة” –أيضًا- يتم تفكيك موت الماضي وبشاعة الحاضر الذي يتحول إلى قتل وتشويه وضياعٍ للأمل بمستقبل أفضل، وفي “لا تقتلني أرجوك.. هذه شجرتي” يسرد لنا لقاء القاتل بالمقتول في فنلدا؛ فالقاتل أصبح سائق باص، والمقتول روحًا تظهر وتختفي، ولكأن القاص يقول: لا شيء يموت بسهولة، وليس من حياة جديدة ممكنة، والماضي يسكننا دائمًا.
في “ألف سكين وسكين” نقرأ وقائع عجيبة، عن أفراد يخفون السكاكين، وآخرين يعيدونها مجددًا، ويأخذ الموضوع بعدًا بيولوجيًا، فهؤلاء يولدون أطفالًا لهم القدرات ذاتها؛ القصة فيها كثير من الإدهاش، ولكنها تدور حول الموت الذي لا يتوقف، والسكاكين التي تستقر عميقًا في الأجساد، ليعاد استخدامها مجددًا في القتل؛ والخوف أن تصبح القصة قصة أجيال متعاقبة من دون نهاية.
قصص حسن بلاسم، تستقر عميقًا في سرد الألم الإنساني، وتحكي عن جبروت الإنسان وهشاشته في الوقت عينه، وتتكلم عن بشاعة الحروب والكوابيس التي ترافق البسطاء، في حياة يقررها لهم الأثرياء. الكاتب يُعنَى -خصوصًا- بعالم الإجرام، الذي يمارس كل أشكال القتل، وتحت حجج دينية أو منظمات دولية، لا يمكن لعقل طبيعي أن يتخيلها، لكنهم يخططون لأعمالهم القذرة، وكأنهم يهتمون بأطفالهم في يوم عطلة.