خطاب انفكاك الجولاني وجبهته (فتح الشام) عن القاعدة، كان خطابًا إسلاميًا مؤدلجًا، غابت عنه الروح الوطنية، التي لم تكن منتظرة، ولكنها وحدها تعبر عن التغيّر المطلوب من خطاب الانفكاك وتغيير الاسم، وغير ذلك يُعدّ مناورة فاشلة لا تنطلي على أحد، وبالتالي؛ لن تخدم الهدف الذي سعى إليه.
الذين يرون خطوة النصرة صحيحة، ويطلبون أن تتابع بخطوات، وأن تكون جزءًا من نسيج الثورة السورية، ومن تحالفاتها الإقليمية، وأن تكون جزءًا من بنيتها السياسية في كل المستويات، وأن تكون فعلًا حالة توحيدية للثورة تقود إلى أهدافها! هل ينتظرون منها أن تتعهد بقبول الدولة المدنية التعددية الديمقراطية، وتقبل أن يتضمن دستور البلاد حق كل مواطن الوصول إلى كل المناصب الحكومية، وأولها منصب رئيس الدولة، وأن يكون التنافس برامجي بين القوى الاجتماعية والأحزاب، على مستوى الوطن، وليس على أساس هوياتي أو انتماء ديني؟
أقول لهؤلاء إنكم حالمون، فهذا منهج يعتقدون بردّة وكفر من يخرج عنه، ولذلك؛ هم يعملون على أن تتبعوهم، وإلا فأنتم وثورتكم عدو سيحاربونه، فلا تأملوا مزيدًا، فلا تستطيع النصرة الانزياح عن هدف إقامة دولة إسلامية، ولاحتى أصغر فصيل إسلامي، فكلهم سواء وكل المنظرين الإسلاميين من ورائهم يأملون ذلك، ويعملون على ذلك، ولن يتراجعوا قيد أنملة عن ذلك، وكل ادعاءات دولة المواطنة والدولة المدنية من بعض القوى الإسلامية ليست صادقة؛ لأن المنهج يخالف ادعاءاتهم، فماذا أنتم فاعلون؟
نعم، بعض العناصر داخل الجيش الحر، تتبنى الفكر نفسه لهذه التنظيمات، وبعض المعارضة السياسية، والمجلس الاسلامي السوري، وبعض الإعلاميين، وهذا مابينته الأحداث، ولكن أغلبهم يتبنون موقف النصرة سرًا، وداعش نتيجةً، وهذا مقلق جدًا!
قائد سابق للمعارضة قال: “جبهة النصرة صنعت لنفسها اسمًا كبيرًا في دائرة الثوار السوريين، بسبب اعتدالها النسبي، وبعدها عن التكفير أو استعداء المخالفين في الرأي”. كيف للعالم أن يثق بهكذا معارضة؟ وهل هذا الدور يتواكب في المآل مع تطلعات الشعب السوري؟
الجولاني استشهد بقول لابن لادن: “مصلحة الأمة مقدمة على مصلحة الدولة الإسلامية، ومصلحة الدولة مقدمة على مصلحة الجماعة”. وأهداف الانفكاك الخمسة تقول: العمل على إقامة دين الله وتحكيم شرعه، والعمل على توحد الفصائل ورص صفوف المجاهدين، وحماية الجهاد الشامي، والسعي لخدمة المسلمين، والوقوف على شؤونهم وأحوالهم، ثم تحقيق الأمن والأمان والاستقرار لكل الناس؛ هذه الأهداف الخمسة ليس فيها وطن ولا مواطن، ولا تعترف بالناس إلا بعد تحقيق أمر المسلمين، والمسلمون بالمحصلة هم السنة وحدهم، والبقية كفرة مرتدون أو أهل ذمة أو أمان أو عهد، هذا هو منظور الأدلجة التي يتبنونها، لامكان لمفهوم الوطن فيها، والوطنية وثنية جديدة، كما وصفها الشيخ السلفي، عبد الرحمن الدوسري، في “الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة”.
يقول الشيخ الدوسري تعليقًا على مقولة الدين لله والوطن للجميع: “هذه المقالة صاغها الحاقدون على الإسلام؛ ليبعدوا حكم الله، ويفصلوه عن جميع القضايا والشؤون؛ فهي خطة شركية، قلّ من انتبه إليها، ولايجوز للمسلمين إقرارها، ولايجب أن يتخذ الوطن أو العشيرة ندًا من دون الله” ص 86-87.
لا يتوقف توثين مفهوم الوطن على السلفية، فالشيخ الشامي، عبد الرحمن حسن حبنكة، يراها اختراعًا من أعداء الأمة؛ لإخراج أبناء الإسلام من الدين القويم، واستبدال حدود الله بحدود الوطن، واستبدال عقيدة الولاء والبراء بشعار المواطنة، والغاية تمكين الأقليات من رقاب الأكثرية المسلمة، أصحاب الأوطان الحقيقيين!
يقدم الشيخ حبنكة فهمه هذا للمواطنة في كتابه (كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة) ويقول: “إن الديمقراطية باعتبارها تنادي الدين لله والوطن للجميع، وأن شأن الأقليات في الدولة كشأن الأكثرية في الحقوق والواجبات، فهي تمكن الأقليات من التكاتف والتناصر لاستغلال الوضع الديمقراطي ضد الأكثرية ومبادئها وعقائدها ودينها، وتمكنها من التسلل إلى مراكز القوة في البلاد وطرد عناصر الأكثرية، رويدًا رويدًا، وحين تصحو الأكثرية من سباتها تجد نفسها تحت براثن الأقلية محكومة حكمًا دكتاتوريًا ثوريًا!” ويقول أيضًا: “بالمفهوم المعاصر للوطنية الذي روّجه الطامعون يُسلخ المسلمون من حقوقهم في السيادة على الأوطان الإسلامية، ويتسع شعار الوطنية ليضم كل السكان، ولو كانوا نزلاء وضيوفًا أو مقيمين بعهد أو أمان أو ذمة، وبهذا المفهوم الذي يقصد به كيد المسلمين مالكي الأوطان الحقيقيين، غدا لهؤلاء حقوق متساوية، وبمكر مدبّر انطلقت عبارة الدين لله والوطن للجميع، ونسبوا للرسول حديثًا هو حب الوطن من الإيمان، ثم كان اللجوء إلى مكيدة أخرى هي المناداة بفصل الدين عن السياسة، والمناداة بعلمانية الدولة” ص 257-259.
صحيح أن مفاهيم ومنظومات غربية جرت محاولات اسقاطها على المجتمعات الإسلامية، بعد سقوط الخلافة التي لم تعد قادرة على استرجاع كيانها بالصيغة التي كانت، ومنها علاقة الحكم بالدين، وعلاقة الدولة بالمواطنة، ومفهوم القيم الديمقراطية؛ إلا أن محاولات تأصيل جرت أيضًا، وإن قوبلت بردود الصد والمنع بداية، ومنها محاولة علي عبد الرازق في كتابه الشهير (الإسلام وأصول الحكم).
صحيح أنه بسبب النشأة كانت قاعدة الانطلاق لدى علماء المسلمين، أن الإسلام، وبالتالي؛ الدين، هو مبدأ وغاية المجتمع الإسلامي، وبالتالي؛ هو دين ودولة، ويشمل جميع المجالات والتخصصات وبناء العلاقات داخل المجتمع، إلا أن القرآن أهمل القول في مفهوم الدولة، وآلياتها وتسميتها، فلا نص فيه على الخلافة التي كانت الصورة الرسمية التي مازال يتمسك بها دعاة إعادة الدولة الإسلامية، والسنة من بعد ليس فيها مايستدل على هذا المطلب؛ لأنها شأن دنيوي متغير، لايمكن جعله من الدين ولا من متطلباته، ولو وُجد في الحديث دليل، لما وجدنا هذه التعليلات عن ربط الدين بالدولة، فالنص يقطع كل قول وتعليل، وكثير مما تُعرف به منظومة الحكم، وتصنف به أركان الحكومة وأنظمة الدولة، إنما هو من اصطلاح الفقهاء ومن صناعة الأوضاع التي مرت بها مؤسسات الحكم، فلا كانت بمتناول دولة النبوة، ولا المفاهيم التي توالدت من صناعتها، وهي تتقدم باطراد لما يخدم المجتمعات، وما ينتج عن العلوم السياسية كما نراها اليوم.
لكننا نستطيع أن نقرأ، كما قرؤوا ما يخدم قضيتنا في مفهوم المواطنة وأولويتها؛ حتى على الدين نفسه مما جاء في آي الذكر الحكيم، يقول الله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوۤاْ أُوْلَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ وَإِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيْكُمُ ٱلنَّصْرُ إِلاَّ عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} سورة الانفال – الآية 72.
في آية واحدة تحدث عن أنموذجين اثنين:
– الولاية التامة بما تعنيه من تعاضد وتكاتف وحماية ودفاع للساكنين في دار الإسلام والولاء، فهم مواطنون بهذا المعنى وإن لم يكونوا على الدين نفسه، فقد يكونون ممن آوى ونصر.
– وعدم الولاية مع أهل الدين نفسه، ماداموا في غير دار الإسلام؛ لأن ولايتهم تبع لمعايشتهم ودار سكناهم، فما لكم من ولايتهم من شيء.
يمكن أن نرجع إلى صحيفة المدينة، وهي عقد اجتماعي بين المسلمين والقبائل العربية واليهودية، فهي كفلت مجتمعًا تعاقديًا ضمن أطر عامة متفق عليها، في التعايش وفي الدفاع واحترام الخصوصيات والولاءات، من غير إضفاء طابع ديني عليها، وبهذا ومن تعريف للمواطنة كمنظومة للعلاقات الإجتماعية على قاعدة المصلحة العامة في الدولة، وعلى مستوى الترقي المدني في علاقات المواطنين ببعضهم بعضًا، وتجاه المجتمع يمكن أن تقوم المواطنة على علاقات متميزة في الهوية وشعور الانتماء، ويمكن أن تقوم دولة مدنية، وتصبح ناجزة للمسلمين مع غيرهم في إطار تأصيل فقهي تحتمه الضرورات الحياتية؛ وحتى الشرعية، مع التزام المنظومة الثقافية للمجتمعات الإسلامية دون فصل بين حقوق المواطن وحقوق المؤمن، مادامت المواطنة تستوعب الجميع، وتحمي الجميع، وتخدم تطلعات الجميع .