الكلمة، بالمعنى الديني سابقة للوجود “كُنّ فيكون”، وبالمعنى الفلسفي لاحقة له “الوجود يسبق الماهيّة”، لكن في التاريخ الذي تنجدل فيه معارفنا بما نكونه، تصبح التسميات التي تحاكي وتمثل وجودنا وفاعليتنا ذات أهمية بالغة، وذلك ليس لما يُبنى عليها من سياسات وأيديولوجيا وفعل سياسي فحسب، بل لأن التسميات هي ما يبقى بعد الفناء الفردي أو الجمعي لأصحابها وخالقيها، وفي المحصلة، من يسلبك اسمك، يغير ماهيّتك.
ربما أكثر من واضح، أن الصراع على تسمية ما يجري في سورية على أنه ثورة، مرافق للحدث السوري منذ بدايته، وهو صراع لا يقتصر على المعارضة ومعارضة المعارضة، والنظام والإسلاميين، بل يمتد نحو الدول، ولا سيما الغربية منها، التي تتنقل بين تسميتها أزمةً “crises” أو حربًا أهلية “Civil war”، أو تقول المتمردين “rebels”، وهذا التجنُّب ليس بلا معنى، ولا هو اقتراب من الموضوعية، أو الحقيقة التي يتبناها ويدّعيها الغرب، بل هو تجنّبٌ ذو وظائف سياسية، يحدد علاقة تلك الدول بما يحصل في سورية، وليس أدلّ على أهمية الاسم من الصراع على تسمية الإرهاب وما تستلزمه التسمية من فروض وعواقب سياسية وعسكرية، إضافة إلى تسابُق الدول التي تعيش على فائض إرهابها لمجتمعاتها، على تسمية معارضيها بالإرهابيين.
يصرُّ النظام منذ البداية على تسمية ما يحدث بأنه “أزمة”، ويسمي الثائرين “إرهابيين”، لكن الأمر لا يقتصر على النظام؛ الثابت أكثر من الجميع على تسمياته وأدواته، فالعديد من الكتّاب الأصدقاء كانوا -في البداية- يسمونها؛ بحسٍ واقعيٍ، “انتفاضة”، ميشيل كيلو كان يصرُّ على تسميتها “تمرّدًا”، يصبح ثورة عندما يحقق أهدافه الديمقراطية، أدونيس في عزِّ اعتداله عام 2011، كان يسميها “تمرّدًا” أيضًا، لكنه اعتزل التمرد الخارج من الجوامع؛ ليركب زورق النظام “العلماني” ورئيسه “المُنتخب ديمقراطيًا”، أما الأسد؛ فحتى عندما اعترف أخيرًا، بعد صلاته في داريا، أنها ثورة، سمّاها بسعادة بلهاء “ثورة مأجورة”.
ضمن الجو العام، يبدو الإصرار اليوم على تسميتها ثورة، نوع من طيبة القلب أو انكار الواقع الذي يجري دون توقف نحو الدمار الكلي للبلد، ويمنح الاعتصام خارج تسمية الجاري في سورية على أنه ثورة نوعًا من التعالي لصاحبه، أو نوعًا من الابتعاد عن “المراهقة الثورية”، وتبدو مشاعر الذنب والرغبة النوستالجية المكبوتة بالتوبة والندم، أكثر ما تبدو عند الشعراء، وناشطي المجتمع المدني بخاصة، إضافة إلى بعض كوادر اليسار “المغدور”، فيسمونها خجلًا “ثورة مسروقة” أو “ثورة انحرفت عن مسارها”، بحساب أن المسار “الأصلي” للثورة هو السلميَّة وحمامات السلام التي تطير فوق وضد السلاح والفوضى والأسلمة، ولا يغدو غريبًا أن تلك العفّة الثورية هي نوع من التطهّر، وتبرئة الذات من الجريمة الحاصلة، ونتائجها على أرض الواقع.
لا أعرف من أعطى القوم فكرة عن أن الثورات هي أشياء وحوادث جميلة، في الحقيقة، إن الثورات هي شيء بشع من الداخل وفي زمانها، تخريب للبنى القائمة، وقتل وتشريد وفوضى وحروب أهلية، الثورات جميلة من الخارج فحسب، بعد مضي الزمن عليها، في التاريخ وفي الكتب والمآثر والأفلام. يقول جيل دولوز: إنه ليس للثورة أهمية بذاتها ولا بمآلاتها، بل بروح الثورة التي تستمر في الزمن ولا تموت، تلك الروح التي لا يمكن لقاتل صغير أو كبير أن يقتلها في الشعوب الثائرة. وإن نظرنا إلى لثورة الفرنسية، قياسًا على ما قاله دولوز، سنجد أن تلك الثورة، “العظيمة” في التاريخ، لم تكن ثورة دموية فحسب، بل إن أول مفرزاتها كان روبسبير، أو سفاح فرنسا كما يُلقَّب، الذي أعدم ستة آلاف مدني وسياسي في ستة أسابيع، وروبسبير -بالمناسبة- هو أعظم زعماء الثورة الفرنسية، وأكبر معتنقي أفكار جان جاك روسّو (الفيلسوف الذي يتفاخر به نقّاد الثورة السورية)، إلا أن روبسبير أُعدم على المشنقة ذاتها التي نصبها بنفسه “لأعداء الثورة” عام 1792، ومن المعروف أن شعارات الثورة الفرنسية في الحرية والإخاء والمساواة، والتي أصبحت أصل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لم ترَ النور قبل عام 1948 تاريخ صدور الإعلان، لكنها استمرت في التاريخ دون قابلية للموت، بحيث لا نتذكر من الثورة الفرنسية -اليوم- إلا شعاراتها وقيمها التي قامت عليها، دون أن تتمكن من إفرازها وتطبيقها في عصرها.
الحقيقة والسياسة يتباعدان غالبًا، ويتناقضان أحيانًا، لكنهما يشكلان معًا جدل الواقع والممكن، وإن كان نقاشنا هو دفاع عن الحقيقة، فإن حقيقة كونها ثورة، تأتي من روحها “بالمعنى الدولوزي” لا من واقعها المحطم، وتأتي من قيم الحرية والكرامة التي أسستها وقامت عليها لا من مفرزاتها الآنية المبعثرة، وإن كان نقاشنا يأتي بالمعنى السياسي والأيديولوجي، فليس أجدى وأنفع لقضيتنا من عدّها ثورة في وجه النظام الذي يفعل المستحيل؛ كي لا تُسمى باسمها، لا بل يتعامل مع كل من ينطق ثورة، كما تتعامل داعش مع كل من يسميها داعش، بدل الدولة الإسلامية، فالتسمية في الحالتين تسمية خارجية “كافرة” أو “مأجورة”، تستوجب القتل والإبادة.
هي ثورة، لا لأنها جميلة ولا بشعة ولا محطمة، وليس لأنها رغبة، أو ترفًا فكريًا، وليس لأنها قتلت أبناءها، بل لأن معركة الصراع على الاسم، لا تقل نبالة عن غيرها من معارك الصراع الوجودي الذي يخوضه السوريون لنيل حريتهم.