قضايا المجتمع

تسريبات اللواء 130 وصناعة الانحطاط القيَمي

أعادت التسريبات المصورة التي نقلها موقع (الجزيرة نت)، عن مجموعة متطوعات ضمن اللواء 130، التابع للنظام السوري، فتح كل الأسئلة المتعلقة بالمنظومات القيمية والسياق الاجتماعي الذي حكم به النظام مجتمعًا عريقًا كالمجتمع السوري، على مدى أكثر من أربعة عقود.

كثيرًا ما كشف الباحثون الاجتماعيون والمختصون في علم النفس عن خططٍ ممنهجة، اعتمدها الأسد الأب منذ العام 1970؛ لسحق السُّلّم القيمي الأخلاقي للمجتمع السوري، وإنتاج منظوماتٍ قيمية، تتحكم بالعلاقات الاجتماعية البينية بين الحواضر السورية، وما يرتبط بها من مصالح اقتصادية، على أساسٍ يخدم عقيدة النظام القائمة على استباحة كل شيء في سبيل تكريس حكم الفرد والعائلة.

ما ظهر في التسجيل المسرب، أعاد -ببساطة- تسليط الضوء على ما يمارسه نظام الأسد وحلفاؤه من قهر مركب على المجتمع في سورية؛ حتى ذلك المؤيد أو الصامت، ويُنهي بطريقةٍ أو بأخرى جميع الادعاءات التي ساقتها الأجهزة الإعلامية المرتبطة بالنظام عن جهاد النكاح المزعوم، وعمليات الاغتصاب المفبركة التي مارستها كتائب المعارضة -ضمن سياسة صناعة الخوف-، ويُثبت أن كل تلك الشائعات كانت عملًا ممنهجًا مورس ويُمارس من أجهزة النظام الأمنية وملحقاتها على مدار 40 عامًا، وبلغ ذروته في السنوات الخمس الماضية.

هذا التوصيف ليس صناعةً إعلامية، هدفها الانتصار لوجهة نظر الثورة، أو تبرير أخطاء أبنائها، بقدر ما هو قراءة بسيطة للعبارة الواردة على لسان من ظهرن في التسجيل المسرب، والتي أكدت -بشكل لا يقبل التأويل- أنهن تعرضن للابتزاز الجنسي من ضباط سوريين في قاعدةٍ عسكرية، يُشرف عليها الجيش الروسي، وبالتالي؛ يبدو جليًا أن صراع القيم الذي بدأ مع ربيع 2011، مازال متواصلًا، وإن كان بصورةٍ مكتومة أو في خلفية المشهد، وسيستمر -ربما- لعقودٍ مقبلة، قبل أن يستطيع المجتمع السوري ترميم ما أصابه من تهشيم، وإعادة صياغة عقدٍ اجتماعي جديد، يُعيد الاعتبار للإنسان والكرامة الإنسانية.

يؤكد ناشطو الداخل أن مقدار الامتهان لكرامات البشر داخل سورية فاق كل التصورات الممكنة، إلا أن اللافت، وفق وجهات نظرهم، في تسريبات اللواء 130 أنه يحدث لمجموعات بشرية، تُعدّ مؤيدة للنظام وخياراته الأمنية والعسكرية؛ وحتى الاجتماعية، وبناءً عليه؛ أشاروا إلى أن النظام لم يكتفِ بتدمير المدن وتهجير أهلها، بل يسعى إلى سحق كل المفاهيم الاجتماعية عبر استغلال مجتمعات النازحين إلى مناطق سيطرته بأبشع الأساليب، لافتين إلى أنه من هذا الجانب، يمكن فهم كيف نجح وينجح الأسد في صناعة (البذاءة والعهر) في مجمل المؤسسات السورية الأمنية والسياسية والثقافية، خلف كادر المشهد المرعب للدمار في سورية.

وراء مشاهد القصف اليومي، وحرق المدن والقرى المعارضة، تتعرض المناطق الخاضعة لسيطرة النظام لقصفٍ لا يقل قسوة، يستهدف -بشكلٍ مركز ومتواصل- الذاكرة الجمعية للسوريين، وكل ما يمكنه أن يُشكل رافعةً للمجتمع في لحظةٍ ما، عن طريق ممارساتٍ يومية في الطرقات وداخل المدارس والجامعات وغيرها، إضافةً إلى سيل الصور والمواد المعروضة في وسائل إعلامه، وتلك التي تتبنى وجهة نظره، فحرب النظام المستمرة مزقت النواة الأساسية للمجتمع السوري ممثلة بالعائلة، وهي الآن دون أي سياق اجتماعي، يمكن أن يُشكل سياجًا حاميًا لسلم القيم الذي يحتاجه أي مجتمع أو أمة؛ لتستطيع الحياة، فالعوائل السورية باتت مقطعة الأوصال، وفي معظمها دون رجال؛ ما يجعلها فريسةً سهلة للاستغلال والقهر بأشكاله وصوره كافة.

ما حدث ويحدث، أبعد بكثير من مجرد آليات دفاعية؛ لتثبيت أركان نظام حاكم واستئثاره بالسلطة؛ إذ يبدو واضحًا اليوم أن نظام الأسد (الأب والابن) كان مُعتمَدًا -على مدار نصف قرنٍ مضى- من القوى الكبرى؛ لتنفيذ كل ما يلزم من مهماتٍ قذرة داخل المنطقة، وهو لم يستطع إنجاز ذلك دون عملية تدمير لكامل بنى المجتمع السوري العريقة، واستبدالها بأخرى مجردة من أي قيمة سوى الإثراء، والحصول على موقعٍ ضمن خارطة السلطة التي أشرف على بنائها الأسد؛ ما تتطلب سياقًا اجتماعيًا منحطًا، مبنيًا على أساس تحالفات بين تلك البنى الناشئة ورأس المال المحدث، وهي أبرز العوامل في تثبيت العلوية السياسية في حكم سورية طوال العقود الماضية.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق