مقالات الرأي

في التغيير والمجتمع الأهلي

قراءة النماذج التاريخية في التغيير عملية مفيدة، على ألا نتوهم أنها تستعاد بكيفيتها، فكل تغيير مرهون بشروطه ومعارفه ومواقعه، فالراهن له أبعاد مغايرة للماضي كليًا تقريبا، ولذلك؛ كان من السذاجة أن ينظر كثير إلى “الحضارة” المعاصرة على أنها تخضع للنسق الخلدوني، حيث الترف سيكون نهايتها، غافلين عن قدرتها على تجاوز عيوبها بإبقاء عين النقد والتحذير يقظة دائمًا، من “تدهور الحضارة الغربية”، إلى “سقوط الحضارة”، إلى “صدام الحضارات”، إلى “الولايات غير المتحدة الأميركية”، كلها صيحات تحذير، وجدت صدى لها، علينا أن نقر بأننا نعيش في زمن “المركزية الغربية”، ودخلنا في لعبة لعينة؛ حيث باتت الشركات العابرة للثقافات والجغرافيا، تتحكم بالعالم، وتستدر منه المال بطرق مختلفة باختلاف مستوياته المعيشية والاجتماعية، وتفرض -في سبيل ذلك- صراعات وأنساق حكم، تضمن استمرار تدفق الأموال إليها، حرب شرسة بين شركات عملاقة ضحاياها المستضعفون في الأرض.

 

لا نريد أن نحمل هم إصلاح العالم، لكن وضعنا الخاص، كدولة صغيرة الحجم على الشاطئ الشرقي من المتوسط، لا ينفصل -أبدًا- عن الاستراتيجيات الكبرى للقوى المهيمنة، إلى درجة قد تسوغ القول بأن التغيير في بلد صغير بات يتطلب تغيير العالم بداية! مع أن هذه العبارة قد تكون محبطة وداعية لليأس.

 

إلا أن التغيير -بحد ذاته- يبقى ممكنًا، وإن طال أمد انتظاره وتحقيقه دهرًا، وله مسارب، مهما ادلهمت الصورة، وغاضت الآمال، وله قوانين حاسمة؛ حتى وإن تبدلت من حين لآخر. ودون أن ننسى أن جدوى التغيير لا تتعلق بإمكانية تحقيقه فحسب، وإنما في البديل الذي يعيد إنتاج الشروط الداعية إلى التغيير كذلك.

 

النماذج الإلهامية تراوحت -تاريخيًا- بين شكلين: إصلاحي، وثوري، فغاندي الإصلاحي استطاع أن يتخلص من الاستعمار، لكن لم يستطع التخلص من ثقافة الصراع داخل المجتمع، ولا من التمييز الطبقي الحاد بين المؤلهين والمنبوذين، وتشي غيفارا الثوري، وإن أرعب الرأسماليين، وتحول إلى أسطورة للبائسين، كرست حركته الثورية الاستبداد في أميركا اللاتينية، وهذه النماذج الإلهامية لم تعد ممكنة في حاضرنا؛ لأن طبيعة المعرفة والهويات الملتبسة داخل المجتمعات نفسها، حجبت إمكانية الالتفاف حول زعيم يقود حركة التغيير.

 

ولعل طرق التعبير المتعددة والمتجاوزة لمحددات الانتماء، وغير القادرة على طرح بدائل عميقة، أو أفكار خارج سطحيتها وسذاجتها، والتي أوهمت أن الجميع على عتبة واحدة، بغض النظر عن قيمة الرؤى الناضجة والعميقة والفلسفية، مقارنة بانفعالات هشة وعاطفية وأيديولوجية، بل إنها تسهم اليوم في تصدر اللغة العنصرية في أكثر الثقافات حساسية تجاهها. نحو تصاعد التأييد للسيدة لوبان في معقل التنوير الأوربي، أو ما يحققه ترامب من منافسة تقارب التفوق، وهو يصارع منافسته، على الرغم من أنها تأتي من حقل السياسة الأميركية، بينما هو ينحدر من شعبوية بعيدة عن الممارسة السياسية، بل حتى الشعوب التي اكتوت طوال التاريخ من نزعاتها التعصبية، ما زالت هذه النزعات تنشر فيها الخراب، دون أن تخف جموع المحتشدين خلفها، بل إن الوسائل الحديثة ساهمت في تجييش العواطف السلبية وتحشيد المزيد.

 

لا شك في أن ثمة نماذج أخرى دخلت مجال الإلهام نحو ما فعله “لي كوان لي” في سنغافورة، أو “مهاتير محمد” في ماليزيا، ربما أفرزت شيئًا من الأمل في بروز قيادة تحقق المعجزة، وتنقل المجتمعات من حال إلى حال، خلال جيل أو جيلين على الأكثر، لكن مع ابتلاء الدول بأنظمة استبدادية فاسدة ومجرمة ومدعومة -بوضوح- من مافيا سياسية مهيمنة على العالم، قامت بتدمير الدول التي أدارتها سواء بتوريطها في حروب لا طائل منها، أو بتدميرها وتشريد سكانها عبر عنف ممنهج وبطش لا حد له، أو بصرف مواردها على سياسات إجرامية وتحالفات همجية. باتت هذه الصورة شبه مستحيلة، إذ ارتبطت بالهوامش الضئيلة المتاحة في عالم محكم، تقود تفاصيله أكبر قوة في التاريخ والحاضر، سواء أكان تحكمها مباشرًا أم عبر قوى تفسح لها فرصة التبجح بالحضور.

 

سؤال التغيير المثقل بالدم والدمار والتشرد، يكاد يتماهى مع رؤية عدمية، خاصة في ظل الصراع الديمغرافي، وسياسات التطهير القاتلة والصريحة، فلا الإصلاح ممكن، ولا الثورة مجدية، ولا أمل بكاريزما تصنع الفارق.. إنما صراع مستمر ينتصر -في نهايته- من يقضي على خصمه تمامًا، ليكتشف أنه خسر كل شيء. صراع لا يبقي ولا يذر. هذه الصورة القاتمة باتت أشبه بقدر لا يمكن تغييره؛ ما جعل الجميع على الرغم من تعبيراتهم المختلفة يحاولون تخمين الخطط التي ستفرض عليهم، ليس في سياق محادثات سرية كاتفاق سايكس وبيكو، إنما في سياق سهرات ولقاءات أشبه بنوادي السمار طرفها الرئيس كيري أو من يخلفه، وطرفها الآخر، روسي أو إيراني أو أوروبي… إلخ. لقاءات يمد الملتقون فيها لسانهم لكل سكان هذا العالم، ويقولون بكل صلف ووقاحة: نحن نغير كيفما نشاء ومتى نشاء.

 

في واقع كهذا يجب الإقرار بأن زحزحة مفهوم التغيير، والإدراك العميق بأن أي تغيير حتى يكون ممكنًا يجب أن يستند إلى تغيير في معادلات الهيمنة، وهذه المعادلات بالتأكيد ستضيق الهوامش البخسة نفسها، مما يجعل البحث عن تجديد أدوات التغيير، وإدراك أن رحلة التغيير ستكون مديدة بما يتجاوز حتى الرؤى المتشائمة، وأن التغيير يجب أن يحدث بالتوازي داخل المجتمعات المهيمنة والخاضعة بآن واحد، فما يحدث من إرهاب في الدول المهيمنة ما هو إلا امتداد لسياسة إدارة العالم بالأزمات، والعنف وباء مثل كل الأوبئة والجوائح، ينتقل من صقع إلى صقع، مهما احتاطت له الأنظمة، هذا الإدراك ما زال بعيدًا عن المجال العام في الغرب، لأن المجتمعات الغربية بحد ذاتها مشغولة بحياتها الاجتماعية والضرائب والحياة البلدية، وتحت تأثير أيديولوجيات تقليدية ذات طابع استعلائي رسخته الثقافة الاستشراقية، وإعلام مسيس وكثيف يعتم على الحقائق، ويصنع الأكاذيب المتقنة. هذه البيئة تصرف عامة المجتمع عن فهم السياسات الخارجية لدولهم بشكل حقيقي وعميق، ومع وجود بعض الأصوات النخبوية المميزة والتي تبذل جهدًا كبيرًا في سبيل إزاحة غمامة الأكاذيب والأوهام، إلا أنها تبقى عاجزة عن التأثير الواضح.

 

هنا تتبدى أهمية وجود مؤسسات متخصصة في مخاطبة مجتمعات الأنظمة المهيمنة، بالطرق الملائمة، من أجل فضح السياسات الكولونيالية والمافياوية، مؤسسات قد تكون بسيطة وصغيرة بداية، لكن حتمًا بإمكانها أن تتحول إلى مؤسسات كبيرة ومؤثرة بوجود خطاب واضح ومرجعية إنسانية عالية الارتقاء. وهذه المؤسسات يجب أن توازيها مؤسسات تعمل في المجتمعات المأزومة، مهمتها العمل على واقع يجمع الجميع، بدلًا من وهم إمكانية جبل الشعوب على قناعة ثقافية واحدة.

 

ما من مجتمع ناهض إلا وكانت المؤسسات الأهلية هي عماده في النهوض.. لأن النهوض عملية واقعية، وليست مشكلة تاريخية كما نتوهم ونشقى بأوهامنا. فهل ندرك أهمية هذه الثقافة من أجل التغيير؟!

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق