تقاسمنا أنا وأمي سرًّا خطِرًا، وحرقنا الأثرَ ليلًا، ونحن نتلفّت حولنا كالمنتهكين حُرمةَ مزار. كان هذا أول درس في الصف الأول الابتدائي، درسٌ سيمهد لي فهم المنهاج السوري على شفير خوف محفوف بكثير من الإشارات والغمغمة؛ كأنّما الناس اتفقت، فيما بينها -اتفاقًا ضمنيًا- على أن تضع قواعد لشيفرة ما، ستكون أساسًا لعيش آمن، متوّج بقسائم التموين ولباس الفتوة الموحد، والانتظار الطويل في طوابير أفران الخبز.
انزلق القلم على الدفتر الذي أستند عليه وانا أرسم، فَشَرَختُ الوجه من أوّله إلى آخرة بخط أحمر عريض، خطفتْ أمي الدفتر، وهمّت بحرقه، وعندما اقترحتُ عليها أن نغلّفه بغلاف سميك، يَحْجُبُ الصورة، شدّت أذني، وهي تصرّ على أسنانها، وترشقني بعبارة، ستكون بمنزلة النصيحة التي تُشترى بجَمَل:
– ممنوع … صورتو لازم تظل مبينة منشان ما يفكرونا منكرهو…
جميع الدفاتر المدرسية موشومة بصورته، ولا وجود لدفاتر أخرى في السوق.
استلمت دفترًا جديدًا من أمي، بعد أن قدمت تعهدًا شفهيًّا، بالحفاظ على الصورة من أي أذى.
في يوم من أيام الصف الأول الابتدائي -أيضًا- أعود من المدرسة، فأجد أمي مع جارتنا وإحدى قريباتها اللبنانيات، في عزاء حقيقيّ. أمي لا تبكي بهذه الحرقة، إلاَّ الرجال الصالحين وأقرباءها، لكن الفقيد كان من لبنان! تساءلت أين هي لبنان؟ لا بد أن تكون غرب السويداء عند “كرم بلان”، أو ربما هي أبعد من ذلك عند “فرن قنوات”… حدود الجغرافيا -بالنسبة لي- هي الفسحة التي تتيحها حركة أمي، لتأمين لقمة العيش.
اندسست تحت طرف ثوبها الفضفاض، أحاول أن أصغي وأفهم… كان الفهم مؤلمًا، مخيفًا… وصلني بطريقة غامضة أن تلك الصورة، لها علاقة ما بقَدَر ذلك الرجل “يلي من أهل الله” كما تقول عنه أمي. سأعرف لاحقًا أنه (كمال جنبلاط).
كانت أمي والنسوة يسردن سيرة الفقيد… ما صعقني أن نهاية الحكاية، لم تكن كما عهدتها في حكايات أمي، تنصر المظلوم، وتقتص من الظالم، كانت نهاية مجحفة، مفتوحة على عمري الآني والمستقبلي.
تنكبُّ النسوةُ على مناديلهنَّ البيضاء، يستغرقهنَّ نشيج طويل، تتخلله مرثيات ونواح، بينما أدفن جسدي كله في ثوبها، أبكي بصوت مكتوم، تستغرقني رائحة أمي، وفي القماش الآمن؛ تمنيت لو بقيت مدفونة في الثوب العربي، أرى الجميع من خلاله، ولا يراني أحد، لكن عبارة أمي التي قطعت النشيج فجأة، قوَّضت أمنيتي:
– ما شفت فهد شو عملو فيه…!
فهد جارنا الذي يملك معمل بلوك، لديه حركات لا إرادية في وجهه، تنتابه نوبات هستيرية -من آن إلى آخر- فيبدأ بالصراخ وتقطيع ثيابه، إلى أن تأتي سيّارة “المرستان” وتأخذه، ليعود بعد يومين كائنًا هادئًا راضيًا، يرصُّ الإسمنت الرطب وأيامه، في مكبس البلوك، حتى تَشفَّ ابتسامته، وتفصله عن العالم.
أضافت جارتنا تأكيدًا لكلام أمي:
– قالوا انو أختو دلتون ع مكانوا….
ابتعدتُ عن أمي مذعورةً، تملكني شعور عدواني اتجاهها، ماذا يمكن أن يكون ذنب هؤلاء، سوى الإساءة إلى الصورة، من المؤكد أنهم لم يكتفوا بخط أحمر عريض، بل فعلوا ما هو أفظع من ذلك، ربما مزقوها بالكامل، أو بَالوا عليها. أو ربما خطر لأحدهم أن يسكب فوقها طنجرة برغل وبندورة فاسدة.
ولكن هل يُعقل أن أخته وَشتْ به!؟ تذكرت أن هذه الأمور تحدث بين الأخوة، عندما يتعلق الأمر بالله والأولياء الصالحين. أختي وَشَتْ بي إلى أمي ذات مرة، عندما اتهمت الله بالحشريّة… توهمتُ للحظة أن أمي يمكن أن تَشي بي -في المرة القادمة- إذا ما تعرضت الصورة لأكثر من الخدش، وسيأخذونني مثل فهد، وأعود بحركات لا إرادية، وسيسخر مني أهل الحارة ويرمون بي في معمل البلوك، وأرصُّ مع الإسمنت الرطب. وستكون لي تلك الابتسامة، التي ستفصلني عن أمي وأخواتي وقطتي و….
بدأت صورة الدفتر المدرسي، تضغط أحلامي الغضَّة، وتصنع جدارًا من الـ “بلوك” اسمه الخوف، يأخذ حيزًا في قلبي وعقلي وبدني…
الخط الأحمر الذي شرخ الصورة، شرخ الحكايات التي حفظتها عن أمي، على أنها متعة وتسلية؛ إذ كل ما كانت تحكيه أمي، وتختار له نهايات سعيدة، كان كذبًا؛ الهدف منه التمهيد لنا -نحن بناتها- من أجل تقبّل الحكاية الأخرى، التي لن يضع نهاية لها -حسب اعتقاد أمي- إلاَّ تلك الصورة القابضة على مخيلتي الطفلة، صورته النَهِمة، التي ستسكن حقيبتي المدرسيّة، ملاصقةً لعروسة اللبنة.