لم يكن ربيع الثورات العربية انعكاسًا لمؤامرة كونية، كما كانت – وما زالت- تُسوّق الأنظمة العربية، بل تعبيرًا عن آمال وطموحات شعوبٍ، لطالما حلمت بالعيش والكرامة والعدالة الاجتماعية.
جنحت الأنظمة العربية إلى بعض المسميات لتوصيف هذه الثورات؛ لتفريغها من مضامينها أو لتحجيم حركتها وأهدافها، فصار بعض من تلك الأنظمة يُطلق عليه “احتجاجات مناطقية” أو “مطالب فئوية”، وبعضها تمادى في غيّه ودمويته فأسماها “تمردًا”، وتبارى في استخدام القوة المفرطة والأسلحة الفتاكة، فوجهها إلى صدر شعبه، فهدم الحاضر وبدد المستقبل.
الثورات العربية على مقاييس العلوم الاجتماعية ونظرياتها، توصف بالـ “ثورة” بكل معانيها، فقد كانت موجات احتجاجية، التفّت حولها الشعوب بكل أطيافها وطبقاتها وتركيبتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية والعرقية.. إلخ، وسارت وفق أهداف محددة واستراتيجيات عمل وخرائط للإدارة، في الحاضر والمستقبل.
وعلى الرغم من التنوع والاختلافات البينية في الوطن العربي، إلا أن شرارة الثورة انتقلت عبر الحدود المتجاورة، كما حملتها الرياح عبر البحار؛ لتشتعل في دول أخرى، وهو ما يُعبِّر عن واقع اجتماعي وسياسي واقتصادي متشابه في أوضاعه، كما يُعبّر، في الوقت نفسه، عن الارتباط ووحدة المصير والآمال، وقد استدعى ذلك بعض البلدان والأنظمة إلى سرعة التحرك، وإدارة الأزمة؛ للإفلات من تلك الأمواج، فأغدقت الأموال والأحلام على شعوبها، وهربت مرحليًا من تلك المؤامرة، كما تسميها؛ فقدّمت وصفات للإصلاح السياسي والاقتصادي، مستخدمة كل دوائرها الإعلامية وأجنحتها الاقتصادية والمالية؛ لتشويه الثورات وتلويث رموزها وكوادرها، فاتّهمت بعضهم بالعمالة، وزجّت بعضهم الآخر في السجون، وأغلقت المجال العام أمام كثير منهم، بالقوانين غير الدستورية وحالات الطوارئ غير المبررة؛ لاحتواء أي تحركات أخرى.
على الرغم من اعتماد الثورات العربية على النهج السلمي، عبر الضغط الشعبي المتواصل والممتد عبر الميادين، كما في الحالة التونسية والمصرية، أَجبرت أنظمة أخرى شعوبها على حمل السلاح بعدئذ، وانتهاج المواجهات المسلحة طويلة الأمد، كما في حالة سورية واليمن وليبيا، وهو ما يحمل مخاطر كبرى على كيان تلك الدول ذاتها، وبنيتها وتركيبتها السكانية ومواردها. وعلى الرغم من الاختلاف بين النهجين، إلا أن النتائج متقاربة -شكليًا- في خروج تلك الثورات عن أهدافها، وتعرضها لنكبة، فقد التأمت قوى النظام القديم -أو كما تُسمّى -إعلاميًا- الدولة العميقة، مع أصحاب المصالح داخليًا وخارجيًا، وأُعيد تشكيل بنيتها؛ لتقدم نفسها أنموذجًا قادرًا على المحافظة على الدولة واستقرارها، مستغلة تخوّف قطاعات شعبية كبيرة من مسارات الثورة من الجنوح إلى مصائر بلدان مجاورة، فعُبث بأهداف الثورات وفق خطط ممنهجة، وتغيير مساراتها من تغيير للأنظمة إلى الإصلاح الشكلي، وقد استطاعت بعضًا من هذه القوى المضادة من اختراق رفاق الميدان، وتأجيج صراعات الأيديولوجيا والهوية والمصالح، فانتقل الصراع من النظام إلى الاقتتال الفكري.
وإذا كان المشهد العربي الراهن يتبدى فيه خفوت الثورات وتحوّلها إلى انتكاسات، تعيشها الشعوب وتُعانى ويلاتها وانعكاساتها على الصعد كافة، وانتصار مرحلي للقوى المضادة لها، لكن تظل الثورات نارًا مشتعلة تحت الرماد، والغضب الشعبي يتزايد؛ نتيجة الفشل المريع في إدارة أوطان ما بعد الثورة، والتركيز على الانتقام بديلًا عن الإصلاح، وهو ما يُنذر بانفجارات اجتماعية مقبلة، لا أحد يعرف مصدرها، ولا يمكن تصوّر حدودها ومآلاتها؛ فقطار الثورات قد خرج عن القضبان.