يرى الفيلسوف الفرنسي جورج سوريل أنّ “الشر الحالي، علاوة على الخير في المستقبل، في حاجة إلى القوة المشددة، لما ندعوه بالأسطورة [1]. والثورة كحدث مفصليّ مُؤثر ومتأثر بهوية الشعوب، عادة ما تتم عملية أسطرتها وارتفاعها من مستوى الواقع والأحداث الاجتماعية والسياسية إلى مستوى المخيال الجمعي والأسطورة، وفي هذه العملية عادة ما تُحذف تفاصيل ووقائع كثيرة، وإضافة أخرى، إضافة إلى تحوير كثير من الوقائع والأحداث، وتسليط الضوء على بطولات بعينها، وغض النظر عن الإخفاقات والقصور الإنساني المتوقّع، وعمليّة الأسطرة -هذه- لا مناص منها، وإن كانت أكثر صعوبة في عصرنا، عصر ثورة المعلومات منها في القرون السابقة.
إن عملية وصيرورة الأسطرة غالبًا ما تتحوّل شكلًا جوهرانيًّا للحدث، يُرسّخ فكرة المتفوّق المختلف، ومن الأساطير الرائجة عالميًا؛ لتبرير القصور والفشل السياسي، ما سوف نطلق عليه “أسطورة الغريب النجس”، ومن الضروري -هنا- الإشارة إلى أن الأسطورة لا تُساوي الخرافة، أو تساوي الحكايات الشعبية التي أبطالها آلهة أو نصف آلهة، ولكن الأسطورة وبناء على منظور سيميائي “هي استعارة تساعدنا في إضفاء معنى على تجاربنا في ثقافة ما، وإن دورها هو تنظيم طرق مشتركة في أفهَمَة شيء ما (إعطائه مفهومًا) والتعبير عن ذلك في ثقافة معينة[2].
لم يعدّ رولان بارت أساطير الثقافة المعاصرة مجرد تجمع دلالات ضمنية، وفق طرز معينة، بل رأى فيها مرويات أيديولوجية، فعلى سبيل المثال، قد تكون الدلالة التعيينية لصورة “طفل” في سياق يولد الدلالة الضمنية “براءة “، يُشكل ذلك ما يسميه بارت “أسطورة” الطفولة في المستوى الأعلى. وتعمل هذه الأسطورة -أيديولوجيًا- على تبرير الافتراضات السائدة عن منزلة الأطفال في المجتمع [3]، وعلى كل حال، تلعب الأساطير دورًا مركّبًا، يتجاوز وظيفة الفهم والتعبير والتفسير لثقافات الشعوب والمجتمعات، إلى وظيفة التحفيز والتأثير في مجريات الواقع ومساراته، وفي كتاب تأملات العنف، لجورج سوريل، إشارة إلى هذا المعنى، ومثال ذلك قوله: “إذا بالغتْ في الكلام عن التمرد والعصيان، ولم يكن لديك أسطورة تحرّك بها قلوب الناس؛ فلن تستطع أن تحملهم على الثورة [4].
“أسطورة الغريب النجس” ليستْ براءة اختراع سورية. وليست خاصّة بالسوريين، أو حتى العرب والمسلمين، بل هي أسطورة منتشرة في الثقافة البشرية، تزدهر في أوقات الأزمات الكبرى والثورات، نجدها في الثورة الفرنسية 1789 – 1799، حيث انتشر أنّ “كل متاعب الفرنسيين نجمت عن اغتصاب الفرنكيين السلطة، قبل أكثر من ألف سنة، وكان النبلاء الفرنسيون من نسل الألمان البرابرة، بينما كانت عامة الفرنسيين من نسل الغاليين والرومان[5]، وفي الثورة البلشفية 1917، ثمة إشارات كثيرة في التحريض الثوري الروسي إلى اغتصاب النبلاء الأرض، وإلى الفارانجيين أو التتر أو الغربيين أو الأجانب[6] وكذلك في الثورة الإنكليزية 1688، حيث يذهب جون ليلبورن داعية المساواة إلى حد الادعاء أن القانون العام الإنكليزي كان شارة عبودية، فرضها الغزو النورمندي على شعب إنكلترا الحرة[7]، ولا يخفى الموقف العنصري للنازية تجاه اليهود، وعدّهم وفقًا لهتلر “طفيليات تزاحم الشعوب على مقومات وجودها”[8].
ما قصدّتهُ أنّ “أسطورة الغريب النجس” مُلازمة لمنطق الجوهر العنصري، أينما وجد، وهو منطق مناف لبرهان الحدوث المادّي والقيمي معًا، فلا يوجد جوهر مستغنٍ عن الأعراض والعالم، جوهر يختلف بموجه الكائن تفاضليّا عن كائن آخر، فوفقًا لنظرية المنطق الحيوي كل كينونة اجتماعية، سواء أكانت فردًا أم مجتمعًا، ليست جوهرًا، بل صيغة، شكلًا، طريقة تشكّل لأبعاد وجودها المختلفة، فالفروق بين الكائنات فروق في طريقة التشكّل، وحيويّة هذا التشكل لنفسه ومحيطه …، وبالتالي؛ فإن الشكل الحيوي قد يكون مادة، ذاتًا أو موضوعًا، وجودًا أو عدمًا، امرأة أو رجلًا، جهلًا أو معرفة[9].
الكائنات مختلفة باختلاف خصوصية ونسبيّة طرق تشكّلها، فما تراه أنتَ غريبًا، يراكَ غريبًا أيضًا، وما تراه نجسًا قد يراه غيرك ملاكًا، وهكذا، وفي كلّ حال، فإنّ استعارة مفاخر التاريخ الخاص بمجموعة عرقية أو دينية، أو استحضار مظلومية تاريخية، في نقاش أو صراع سياسي راهن، غالبًا ما يخفي وراءه نية غامضة أو سيئة، للاحتفاظ بامتيازات سلطوية، أو تبرير ظلم حاضر، وبما معناه (لقد كنتم سابقًا ظالمين، فالآن أنتم تستحقوّن الظلم!)، و(لم يكن لكم شأن في تاريخ هذه الأرض والمنطقة، ولذلك فأنتم ضيوف أو وافدون طارئون، فلا تنازعونا نحن أصحاب البيت!!).
لنتساءل أخيرًا، هل ثمّة مصلحة أو فائدة للأساطير العنصرية عامّة، و”أسطورة الغريب النجس” خاصّة؟ هذا ما سوف يقودنا إلى فرضية “العدو المفيد”، وبدلًا من تركيز الجهد على النفي الجوهراني للآخر في “أسطورة الغريب النجس”، وهذا لا يتم بدون انشقاقات وصراعات داخل الجماعة أو الدولة أو الشعب نفسه، بينما في “فرضية العدو المفيد” يتم التأكيد على الشكل الحيوي وتوحيد جهد الجماعة أو الشعب أو الدولة في مواجهة الأعداء والمخاطر المحيطة، وسأختم باقتباس لرائق النقري، يوضّح فيه “فرضية العدو المفيد” في أحد تمثيلاتها، فالحضارة العربية الإسلامية ضخَّمت من سلبيات الجاهلية، بشأن تعددية الآلهة، أصناما كانوا أم رموزًا، من أجل إطلاق حركة توحيد سياسي في منطقة صحراوية، يصعب السيطرة المركزية فيها، وقد أتمت ذلك على نحو لا مثيل له في تاريخ المنطقة!! وقد تمّ توحيد قبائل الجزيرة العربية وتجييشها نحو التوحيد الخارجي، تحت مظلة شاملة “إله واحد”، وقد أوجدت -منذ البداية- رموزًا عالمية (صهيب الرومي، سليمان الفارسي، بلال الحبشي، … إلخ) وبذلك أصبحت الجاهلية تعني داحس والغبراء، والإسلام يعني إمبراطورية كبرى توحد الشعوب من الصين إلى إسبانيا، ولكن عندما لم يجر الانتباه إلى نمو الأصنام المذهبية والطائفية والسلطانية والسحرية.. فإن عقد التوحيد الحيوي بدأ بالانفراط، والحيوية أخذت في النضوب!![10].
أسطورة الغريب النجس في الثورة/ الحرب السورية
كانت “أسطورة الغريب النجس” حاضرة في الخطاب السياسي والثقافي، الرسمي والشعبي، تقريبًا عند كل أطراف الثورة/ الحرب السورية، بما يشمل السلطة السورية وخصومها، من الثوار والمعارضين. إنّ أوصاف الغريب يقابلها الأصيل ابن البلد، والنجس يقابلها الطاهر النقي، وتقريبًا كل طرف من أطراف الصراع، كان ينظر إلى الآخر على أنّهُ جوهر منحطّ، وكغريب نجس، طارئ الوجود على هذه الأرض! لنتذكّر أن العقائد الدينية الإسلامية السنّية والشيعية والعلوية في المجتمع السوري والعالم العربي الإسلامي عمومًا، تتحوّى مصالح منطق الجوهر العنصري في الغالب الأعمّ، ولنتذكّر أيضًا أن العقائد اللا دينية، القومية العربية والقومية الكردية والماركسية والأسدية (عبادة الفرد)، هي في واقع المجتمع السوري، تتحوّى مصالح منطق الجوهر العنصري في الغالب الأعمّ كذلك، وهو ما يفسح المجال أمام ازدهار ورواج “أسطورة الغريب النجس”. وقد سبق لنا أن تعرضنا لتظاهرات أسطورة الغريب النجس في مقالات سابقة، منها على سبيل المثال لا الحصر: أولًا- سيناريوهات تخوين سوريين لبعضهم بعضًا، حيث ينظرون إلى فئويتهم القومية أو الدينية على أنّها سوريّة أصيلة الوطنية، بينما الفئويات الأخرى طارئة غريبة وافدة من خارج الحدود مشكوكة الانتماء الوطني (راجع جيرون: قميص عثمان السوري! والتدخل الأجنبي – 24 أيلول/ سبتمبر 2016)، ثانيًا- تقديم الإسلام الشامي المعتدل بشكل طهراني وعزو التكفير والتطرف الديني إلى غزو الإسلام الوهابي البدوي لسورية، أو وفود الإسلام الإخواني العنفي من مصر! وهذا ما تعرّضنا له في مقال سابق (راجع جيرون: الإسلام الشامي المعتدل! 14 أيلول/ سبتمبر 2016)، ثالثًا- محاولات إثبات أصول يهودية أو فارسية لعائلة الأسد! رابعًا- المقولة الأسدية الشهيرة في الجراثيم، وتبرير الإبادة الجماعية والمجازر، بكونها تطهير وقضاء على جراثيم غريبة فحسب.