بعد أن انكشفت أمام الملأ اليوم -وبأيِّ ثمن!- سوأة النظام الأسدي في عُريّها الكامل؛ فلم يعد بوسعه مواراتها، بعد أن تلاشت -خلال نيف وخمس سنوات- أقنعة المقاومة والممانعة وسواها من ضروب التلفيق والكذب، كالعلمانية والحداثة وحماية الإقليات وسواها، وبعد أن هيَّأ هذا النظام الشروط اللازمة كافة؛ كي تصير سورية بلدًا محتلًا، يتقرر مصيره في عواصم أخرى غير عاصمته، وبعد أن باتت سورية أرضًا يعيث فيها -إلى جانب نظامها- تدميرًا وتخريبًا حرس إيران “الثوري”، وذيولها في لبنان والعراق، ومرتزقتها من أفغانستان، بات من الضروري الوقوف أمام هذا المشهد المرعب الذي كانت ملامحه قد بدأت ترتسم أمام أعيننا منذ نيف وربع قرن، أي منذ أن أُعلنَت كوندوليزا رايس سياسة الولايات المتحدة الأميركية في اعتماد “الفوضى الخلاقة” منهجًا في سياستها الخارجية؛ من أجل علاج مشكلات المنطقة العربية ومحيطها اللذين تغطيهما تسمية “الشرق الأوسط” المعتمدة في الغرب أساسًا. هذا العلاج الذي يسعى لإعادة تشكيل المنطقة -برمتها- عبر رسم حدود جديدة، لا تتطابق -بالضرورة- مع الحدود القائمة، ورسم ووضع تعريفٍ جديد للأدوار، ومن سيناط به أداؤها، فضلًا عن إفساح المجال لنشوء علاقات قوى مختلفة، تعكس إمكانات الواقع الجديد المأمول، والذي كان النظام الأسدي ورأسه، إلى جانب نوري المالكي وأتباعه في العراق، والحوثيين في اليمن، الأدوات التي أنيط بها أن تلعب الدور الرئيس في تمهيد الأرض له.
ذلك أن الاستغراق في تفاصيل ما يحدث في مشرق العالم العربي خصوصًا طوال السنوات الخمس والعشرين الماضية، يمكن أن يحجب -غالبًا- صورته الإجمالية التي يمكن أن تنطوي على، أو تشير إلى، غايته القصوى، كما أن طبيعة وحجم الكوارث التي طاولت منه -حتى الآن- العراق وسورية واليمن، فضلًا عن الأزمات الخانقة التي تعيشها بلدان أخرى، وأولها مصر التي لم يكن أحد يتصور وقوعها، أو يتنبأ به، يسعهما أن يحيلان إلى مشهد كارثي بامتياز، يستدعي صور نهاية العالم. لكننا لسنا إزاء صور خيالية عن نهاية العالم ككل، بل عن نهاية عالم بالتحديد: المشرق العربي الذي كُرست صورته مع نهايات الحرب العالمية الأولى، وتبدو الآن قيد تمزيق لا يوازيه في عنفه سوى عنف الطريقة التي ولد بها قبل قرن.
ما بدا قبل ربع قرن مجرد تصريحات صحفية، أو أفكارًا تم تداولها حول موائد مستديرة، أو خلال ندوات دولية بات الآن واقعًا مجسدًا، في العراق وسورية واليمن خصوصًا، وفي مجمل الشرق العربي عمومًا، بكل ما انطوت عليه تفاصيله النظرية الأشمل: صراع قوميات يتخذ تارة شكل صراع طائفي، وتارة شكل صراع عرقي، وأخرى شكل صراع على الهيمنة، وكل ذلك في ظل، أو تحت وطأة، اختلالٍ أمني واقتصادي وسياسي. استُخدمت خلال التنفيذ ومن أجله عناوين عديدة، بدأت بخلخلة الوضع القائم وزعزعته بمختلف الطرق السلسة والطبيعية ظاهريًا، وانتهت إلى تعميم العنف والرعب والدم. لا مجال -هنا- للتفكير بوجود علاقة لكل ما سبق قوله بنظرية المؤامرة، ولاسيما أن كل ما يجري يشير إلى هوية ودور وتأثير كل فاعل في المشهد العام الذي يرتسم مجسَّدًا أمام أعين الجميع، وفي كل مكان. كما أنه لا يعني -بحال- أن منهج الفوضى الخلاقة القائم اليوم واقعًا، يسير بحسب خطة مرسومة تشرف عليها القوة العظمى التي تبنته، دون أن تعتور تنفيذه مشكلات تمليها مصالح القوى الأخرى، وتتجسد عقبات أو مناهضة أو مقاومة أو تخريبًا؛ بهدف مفاقمة تعقيد الأوضاع والحيلولة دون السير بالخطة حتى مآلاتها المنتظرة، وإنما هي محاولة تستهدف لا تنشيط الذاكرة العربية المُتداعية إلا من استدعاء آلهة الماضي وشياطينه ومجرميه أو ضحاياه فحسب، بل الدعوة -أيضًا- إلى لملمة التفاصيل المبعثرة وإعادتها إلى أصولها، بما يتيح إمكان فهمٍ أدق لما يجري، ومن ثمَّ البناء عليه.
ذلك أن وطأة العنف والآثار المدمرة غير المسبوقة في العصر الحديث التي أدت إليها الأحداث في البلدان الثلاثة المشار إليها، ولاسيما في سورية، استدعت لدينا اللجوء إلى عدد من مفاهيم فضفاضة، وتكاد لا تعني شيئًا، كالضمير العالمي، والمواقف الأخلاقية، والقوى الصديقة، والمشاعر الإنسانية، وسواها، والتي تبدو، وهي تُستخدم في معرض العلاقات الدولية ومصالح القوى الكبرى المهيمنة اقتصاديًا وعسكريًا، وكأنها من عالم آخر لا يمت إلى عالم الواقع الراهن بصلة. لا بل إنها حالت بيننا وبين رؤية التغيرات العميقة التي طرأت على النظام العالمي، ولا سيما على الصعيد الاقتصادي، وخصوصًا على صعيد النفط، لصالح القوى الكبرى التي كانت -من قبلُ- رهينة لمنتجيه إلى ما قبل عقدين.
وعلى أن أحداثًا مماثلة في ضراوتها وفي عنفها لتلك التي تعيشها المنطقة العربية اليوم، عرفتها مناطق أخرى في العالم من قبل، مثل: دول البلقان في الثمانينيات، وقبلها في ستينيات القرن الماضي فييتنام وكمبودجيا، كانت تقدم براهين لا حصر لها على “سينيكية” أو صفاقة القوى العالمية التي تجلت وتتجلى -دومًا- في الأولوية المطلقة التي توليها لمصالحها الاقتصادية، ولهيمنتها التي تكفل لها سيرها على أحسن وجه، والتي كان بوسعها أن تكون هاديًا فيما يجب اتباعه من سلوك إزاء القوى الكبرى، ولا سيما روسيا والولايات المتحدة؛ وعلى أن القوى المهيمنة اليوم في العالم عاشت في تاريخها الحديث حروبًا راح ضحيتها الملايين من شعوبها، ولا سيما في حربين عالميتيْن متتاليتين، لم يفصل بينهما أكثر من عشرين عامًا، وهي حروب لم تحصِّنها إزاء الكوارث المماثلة فحسب، بل دفعتها إلى ابتكار حروب أخرى لتأمين مصالحها، حروب لا تجري على أرضها، ولا تنال منها مثلما فعلت سابقاتها على أراضيها؛ إلا أن ذلك كله لم يسهم -مع ذلك- في المساعدة في إعادة صوغ الأسئلة التي طرحتها أحداث الثورات العربية، وبالتالي؛ على محاولة الإجابة عنها بما يسمح بوضع الأمور في نصابها، وتكييف الاستجابات العقلانية للضرورات وللضغوط وللوقائع التي فرضتها هذه الأحداث، وطريقة استخدام مختلف القوى المحلية والإقليمية والدولية لها، والاستفادة منها لصالحها.
في ضوء هذه الإشارات، يفقد كثير من التصريحات التي تتناول -على سبيل المثال- تقسيم سورية، أو اعتماد النظام الفيدرالي فيها، أو إنشاء دولة كردية ضمن هذه الفيدرالية، معانيها الحقيقية على الرغم من كل ما تهوِّلُ به وقائع صارخة للعيان على الأرض، وتحمل كثيرًا على الخوف من التجزئة أو التفتيت، يسري ذلك على العراق بقدر ما يسري -أيضًا- على ما يجري في اليمن وفي ليبيا؛ فالفوضى “الخلاقة” لم تبلغ -بعد- مداها، وإن تجاوزت ذروتها. لقد كان التواطؤ الروسي – الأميركي الضامن لمصالح كل منهما، يسعى من أجل الوصول بهذه الفوضى إلى مآلاتها. لكنه يبدو وكأنه يتهاوى اليوم أنه لن يفعل أكثر من عرقلة موقّتة، لن يسمح طرفاه باستمرارها. وإذا كان ذلك يعني أن العنف والدمار سيستمر؛ حتى تبلغ هذه الفوضى المُدمرة ما ترمي إليه، فإنه يفضي -في الوقت نفسه- إلى تساؤل ملح: هل يمكن في غياب أي قدرة على التنبؤ بما ستؤدي إليه هذه الفوضى، العمل على محاولة استعادة المبادرة الشعبية السورية، على الأقل في براءتها الأولى، أي: في وحدة لا مفر منها إلا إلى الموت الحتمي للجميع؟