أدب وفنون

“بانوراما الموت والوحشة” للشاعرة رشا عمران

يمكن للشعر في لحظة التجلي أن يمتلك بصيرة فريدة، تؤهله للتسلل في ثنايا التفاصيل الدقيقة، فيغدو مرآة تعكس ما فات على أبصارنا إدراكه، محيلًا المَشاهد والصور والتفاصيل التي كنا نعبرها دون أدنى اكتراث، إلى شاشة عملاقة تنتج صورًا صارخة، تصدمنا بوشوشة كلماتها التي تحولت إلى أصوات، لا يسعنا إلا الجمود أمامها، والتنبه لصراخها، وكأننا نسمعها ونراها للمرة الأولى.

 

في ديوانها “بانوراما الموت والوحشة” تحقق الشاعرة السورية رشا عمران، الصدمة في أعلى تجلياتها، لتدخلنا في وحشتها الذاتية؛ كي تجعل منها وحشة كلية، تحتل كامل المشهدية الشعرية، ولا نعي ذواتنا إلا وقد راحت تتماهى معها تمامًا؛ نظرًا لفرط الحساسية التي تتمتع بها تلك المشهدية؛ ما أكسب المقاطع الشعرية ميزة قلب المفاهيم والصور، لتشكيل وعي مغاير عن الوعي المألوف للواقع والذات معًا، وهو بمجمله وعي في أعلى درجات مأساته؛ فهذه الذات، على الرغم من وعيها بكينونتها وكينونة واقعها، تعيش حالة اغتراب كامل عن نفسها وعن محيطها، فتارة، تغدو الأعضاء الجسدية المبعثرة والممزقة غريبة عنها، وتارة أخرى، تغدو أشلاء مُدركة ومعلومة بكل تفاصيلها، بينما الرأس، ذاك الهيكل المحتوي هوية الذات ووعيها- يتحول إلى قطعة مصلوبة بمسمار على حائط الفراغ، أمام شاشة أصبحت -بكل ألوان طيفها وصخبها وحركتها العاكسة للواقع- عبارة عن إطار أسود، يضاعف مأساة فصل الرأس عن الذات، وبقية الأعضاء؛ ليتحول  إلى كتلة غريبة عنها، حيث تقول الشاعرة:

وما كان لشيء أن يحول دون تفتتي..

كنت أراقب أعضائي موزعة على البلاط..

تلك اليد أعرفها جيدًا وأعرف أصابع القدم اليسرى المبعثرة وأعرف الشامة

السوداء في أعلى الظهر، الشامة التي كنت أبرزها دائمًا كلما نسيت اسمي..

أعرف بقعة الدم أسفل الجدار وأعرف السرة الملقاة تحت السرير كمنديل عتيق..

وحده الرأس بكل تفاصيله.. الرأس المعلق أمام الشاشة السوداء كمسمار في فراغ الحائط

كان غريبا عني….

هنا تضعنا الشاعرة أمام متاهة جديدة، وأمام تساؤلات عديدة: هل هذا الرأس المصلوب انعكاس للواقع السوري المتخم بالأشلاء البشرية، أم أن الرأس، وما يعكسه من وعي للواقع، هو ما بات غريبًا عن الواقع، ولا يرى فيه سوى ذاته الذبيحة، أم هو إدراك للوقع في متاهة دائرية، أقدمت الذات على تشويهه وتحويله الى رماد أسود، أم أن العالم الخارجي هو من أحرق الذات وأحالها الى رماد أسود.

 

وتأتي الأجوبة مغايرة للسياق المعتاد، ففي لحظة ما، كانت ثمة أحلام وخطط ومشروعات، تواظب الذات على تحقيقها، قبل أن ينالها التمزق والوحشة؛ فتمضي في خطواتها؛ لتلملم كل ما أمكن لها من أحلام مبعثرة، غير أنها، وفي لحظة محددة، وعت أنها لم تكن تمضي إلا صوب المقبرة:

ثم كنت أحاول أن أستنبت حياة هنا..

عزّقت أرضًا ورششت بها التفاصيل كما البذار…

وكل صباح أفرد ما بي من الرطوبة على مساحة المكان

وأطلق الأسماء على أجزائها لعلها تصدق أسماءها مثلي..

اليوم.. اليوم تمامًا انتبهت كيف تميل شتلاتي القزمة باتجاه واحد فقط….

المقبرة.

 

وللمقبرة هنا حضور بارز؛ حتى أنه يمكن تلمس شكلها وحوافها وأبعادها، من خلال انعكاس ظلالها على ذات الشاعرة، وانعكاس ظلال ذات الشاعرة عليها؛ فتتحول إلى مكان يحتفي بالخصوصيات، يحددها، يرسمها، ويتفاعل معها. والمأساة المضاعفة تكمن، في أن هذه المقبرة ليست ككل المقابر التي يتلاشى فيها الوعي، بل تبدو الذات في أوج وعيها لقبرها، ولكل ما يحتويه من ملامح وتفاصيل وأشياء، فالقبر فيه امرأة لم تزل تسافر إلى ماضيها وذكرياتها، باحثة عما أوصلها الى المقبرة، وهي بعد لم تمت، بل تصر -في عملية بحثها- على البحث عن أنوثتها وكينونتها وذاتها، وعن تفاصيلها الحميمية، وأحلامها التي تحولت -جلّها- إلى أوهام وكوابيس، لكنها لا تجد في نهاية المطاف إلا ان تفر منها إلى سريرها الذي هو جزء أصيل من مكونات مقبرتها، وكذا حال الوسادة والمنضدة والبلاط وفنجان القهوة و”الكيبورد”… كلها غدت مفردات وديكورات مؤسسة لهذه المقبرة.

 

جميع المقاطع الواردة في ديوان “بانوراما الموت والوحشة”، تدفعنا إلى الوقوف عندها؛ بحثًا عن معانيها وفهم تشكيل الصور المطروحة على نحو لم نألفه من قبل، فثمة مقاطع تصفعنا، وتشد انتباهنا بطريقة خاطفة وصادمة؛ نظرًا لغنى الصور وقوة حضورها في سعيها لرسم مشهد مختلف للحياة عما كنا نعتقده؛ فالإتيان بصور ومعاني ومفردات، لم نكن نتوقعها قطّ في سياق المشهد، هي ما يمنحنا جرعة وعي جديدة، لواقع كنا قد اعتدنا عليه. غير أن فعل الإدهاش المقدم عبر سياق النصوص والمقاطع يدفعنا إلى الذهول أمام صورة هذا الواقع، فحينما ترسم الشاعرة رشا مقطعها الآتي، تُحدث مفارقة صادمة وعنيفة، تهز وجدان القارئ وتشير إلى لعبة موت سريالية:

وكنت أراقبهم..

يأتون إليّ من أول الليل..

يقتحمون صمتي كما الحجيج..

أعرفهم من أحزمتهم البيضاء..

من الحناء الكالح على أجسادهم..

أميز ظل الخوف في عيونهم والذهول على أفواههم الفاغرة..

يأتون إليّ من أول الليل..

لا شيء معهم غير ترجيع طقطقة عظامهم، وهي تئن تحت الركام

وغير مفاتيح لغرف يخبئون فيها مؤونتهم

من الموت.

 

فالأموات هنا يمضون إلى حتفهم، وهم واعون، ويُرصد ذهولهم والخوف البادي على وجوههم في لوحة مفعمة بالمرارة والوحشة، وهل ثمة أقسى من موت مدرك عند ضحاياه! ومع ذلك؛ هم يكافحون موتهم ويرفضونه، مكابرين على المصير الذي حل بهم من خلال حرصهم على تخبئة زادهم وأحلامهم في غرف، يحملون مفاتيحها معهم، وكأن ثمة ما يوهمهم، ويخادعهم، بأنهم لا بد عائدون إليها، أو أن زادهم وأحلامهم، باتت ذواتًا، لها قيمة وأهمية أكثر من ذواتهم، ومعظم هؤلاء الموتى لم يأتهم الموت على نحو ما ألفناه، وإنما يموتون تحت ركام بيوتهم المهدمة؛ بفعل قصف الطائرات التي تعصرهم، إلى حد أنها ترغمهم على إصدار أنين العذاب، والنواح المحمول معهم كيفما تحركوا؛ ما يجعلهم في حالة وعي كامل لموتهم، ويجعل الموت قاسيًا وعنيفًا، إلى حد أنهم يرسمون صورًا جديدة، ومعانيَ مختلفة للموت، من كونهم يموتون على يد سفاح يتعطش للدماء -أكثر من كل طغاة الأرض- ويقتل ضحاياه بطريقة لم يألفها حتى الموت من قبل، وها هي الأم التي ربت أولادها وأطعمتهم من جسدها، سرعان ما تكتشف، أنها لم تكن تربي أولادها، إلا ليتحولوا، وقبل أوانهم، الى تراب، وضحايا للقتل والهمجية، أمٌّ لم يعد ابنها الشهيد إلا مقبرة لها.

كأنني أم الشهيد

أنزل القبر

قبله

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق