سورية الآن

وحده التقسيم يحصّن الاحتلال الروسي – الإيراني لسورية

يعتقد الموالون لنظام بشار الأسد، وأنصار «محور الممانعة» الإيراني في العراق ولبنان وغيرهما، ومعهم عواصم عربية كالقاهرة والجزائر، أن استمرار النظام واستعادته السيطرة على كل المناطق هما دعامة الحفاظ على سورية «موحّدة». وعلى رغم تفاوت حجج هذه الأطراف وتمايز منطلقاتها، إلا أن مواقفها استندت عن قصد أو غير قصد إلى منطق واحد ووقعت عمليًا في الاصطفاف نفسه. وبما أن النظام انعطب منذ العام الثاني للأزمة وصار معتمدًا كلّيًا على الدعم الإيراني، فإن مواصلة الرهان عليه صارت واقعيًا رهانًا على إيران، يتساوى في ذلك أن يكون المراهنون معنيين بالأجندة والمشروع الإيرانيين أم لا. وبعد التدخّل الروسي، بطلب إيراني كما حرصت طهران على التأكيد مرارًا، انقسمت تلك الأطراف بين مَن يستمدّون من موسكو «مشروعيةً» لمواقفهم ورهاناتهم، ومَن ظلّوا على الولاء لإيران ونفوذها في سورية، معتبرين أن طهران هي التي تدير موسكو.

وفيما دأب إعلام «الممانعة» على اعتبار أن الأزمة تفاقمت بسبب قوى أخرى تدخلت و «دعمت الإرهاب»، كما كرّر رئيس النظام مشيرًا إلى تركيا والسعودية وقطر تحديدًا، فإن ذلك الإعلام كان يتّهم الأطراف المتدخّلة بأنها تسعى إلى إسقاط نظام الأسد لإحلال «نظام إسلامي متطرّف» محله، أو إلى فرض التقسيم. وفي تبريرهم الحرب الهمجية التي تُشنّ على حلب، راح «الممانعيون» يقولون أن الدافع الرئيسي لـ «تحرير حلب» هو «إحباط مخطط تقسيم سورية». وطوال أعوام الأزمة، وصولًا إلى عقدتها الراهنة، لم يبدِ أي ناطق روسي أو إيراني أو أسدي أي موقف يؤكّد الحرص على وحدة سورية، بل إن «سورية المفيدة» بات مصطلحًا يحدّد الإطار الجغرافي للمخطط الأسدي – الإيراني، وقد غدا منذ عام 2013 في مثابة مقترح أول في أي مساومات تقسيمية مقبلة. أما في الجهة المقابلة، سواء في المعارضة أو الدول الداعمة لها، فلم يُعرف أي مخطط أو مقترح مضاد، بل شدّدت كل المؤتمرات برعاية الجامعة العربية وغيرها على وحدة سورية، وكانت الخشية الدائمة من نيات تقسيمية قديمة ومبيّتة لدى الجانب العائلي – الطائفي المهيمن على النظام.

وما حصل خلال آب (أغسطس) الماضي، كان ذا دلالة، أولًا بالرعاية الروسية لوقف إطلاق النار بين القوات النظامية والكردية لمصلحة سيطرة الأكراد في الحسكة، ثم في عدم الاعتراض الروسي أو الإيراني -مع اعتراض شكلي من النظام- على التدخل التركي في عملية «درع الفرات» لطرد تنظيم «داعش» من جرابلس ومطالبة الأميركيين بسحب القوات الكردية من منبج وإبقائها شرق الفرات. إذ تشير الواقعتان إلى أن مشروع «استعادة السيطرة عل كل المناطق»، وفقًا للأسد، ينطوي على استثناءات، وأن «سورية المفيدة» هي أقصى طموحه، أما الحروب المستمرّة فتهدف إلى تحصين هذا الطموح بإحاطته بمناطق مدمّرة وأراضٍ محروقة لإضعاف مصادر الخطر عليه أو إزالتها كليًّا. ولعل «العملية الكاملة» التي يخوضها التحالف الثلاثي (روسيا وإيران والنظام) بدت ممكنة أخيرًا في حلب كمقابل للقبول الصامت بدور تركي حدّدته موسكو جغرافيًا وقصرته على محاربة «داعش» واحتواء من التوسّع الكردي الطموح.
مع انهيار الهدنة الأخيرة وبدء الهجوم على حلب، كان وزير الخارجية الفرنسي المسؤول الغربي الوحيد الذي حذّر من أن «النظام يلعب في حلب ورقة التقسيم». وكان سبقه نظيره الأميركي في شباط (فبراير) الماضي، إلى القول بأن الفشل في فرض هدنة يعني استدراج الوضع السوري نحو التقسيم، وتبعه قبل أسابيع مدير الـ «سي آي إيه» في ترجيح هذا المسار. وباستثناء إشارة من نائب وزير الخارجية الروسي إلى «الفيديرالية» (التي تعني استمرار وجود دولة مركزية قوية)، فإن الروس لم يفصحوا عن أي موقف في شأن مشاريع التقسيم، لكن إدارتهم للأزمة والحرب بقيت في الخطة التي رسمها الثنائي الأسدي – الإيراني منذ 2011، لذا جاء تدخّلهم وسيطرتهم على القرار العسكري ليساهما في مزيد من القتل والتدمير خدمةً لتلك الخطة التي أفضت عمليًا إلى وضع كل معالم التقسيم على الأرض.

ولم تكن طهران أكثر شفافيةً من موسكو في توضيح نياتهم، لكن المفاهيم التي ضخّها العديد من مسؤوليها وعسكرييها عن أهداف متصلة ومتماثلة لحروبهم في سورية والعراق واليمن، لم تخف عداءهم للشعوب واستخفافهم بمسائل كوحدة الأرض والدولة فضلًا عن سعيهم المؤكّد إلى تفكيك الجيوش والمؤسسات كافةً وتمكين الميليشيات التي يؤسسونها على قاعة المذهبية، أو تلك التي يستتبعونها وأبرز مثل لها ميليشيات فرّخت في مناطق سيطرة نظام الأسد، لا سيما في الساحل. وعلى رغم إحجام الإيرانيين عن الإشارة إلى التقسيم (يفضّلون مبدئيًا السيطرة الكاملة)، إلا أن أحد أتباعهم اللبنانيين لم يتردد في القول أن «تقسيم سورية والعراق أمر وارد» (نعيم قاسم، الرجل الثاني في «حزب الله»، 04/08/2016). وليس أدلّ على ذلك من سياسة التهجير القسري التي انتهجها النظام بإخلاء المدن والبلدات والقرى منذ الشهور الأخيرة لعام 2011، ثم تولّى الإيرانيون استثمارها في الأعوام التالية لإحداث تغيير ديموغرافي مبرمج، خصوصًا في محيط دمشق وفي حمص، وقد ظهرت معالمها أخيرًا في حصارات التجويع والقصف الوحشي في الزبداني والقلمون وداريّا وحي الوعر. ولا ترمي هذه السياسة إلا إلى جعل أي حل سياسي مستحيلًا لاستحالة عودة النازحين واستعادتهم بيوتهم وأملاكهم أو الذين أحرقت محالهم التجارية وأُزيلت عقاراتهم، أو حتى عودة «الغائبين» الذين صودرت أملاكهم باعتبارهم «إرهابيين» (تطبيقًا للسيناريو الإسرائيلي بالتصرف بأملاك الفلسطينيين).

لكن إعلام «الممانعة» الإيراني يغطّي دناءة هذه الممارسات بشعارات خوض المعركة «الأخيرة» في حلب باعتبارها «هدية محور المقاومة لوحدة سورية»، ويواصل الادعاء بأن كل ما تفعله إيران ونظام الأسد يهدف إلى مواجهة مخططات إسرائيل والولايات المتحدة. وقد اتهم الأسد أميركا بالعمل على تقسيم سورية لضمان أمن إسرائيل وتطويق النفوذ الإيراني، وحجّته في ذلك أن أميركا تدعم الجماعات الإرهابية والتنظيمات الكردية الانفصالية وتعطّل مساعي الحل السياسي. لا يمكن تبرئة الأميركيين من هذه الاتهامات، لكنها تنطبق أيضًا وحرفيًا على نظام الأسد، بما فيها خدمة إسرائيل التي لم يكفّ عن مغازلتها. غير أن الواقع الذي أفضت إليه الأزمة يفيد بأن جميع المتدخلين في سورية (الروس والأميركيين، الإيرانيين والإسرائيليين والأتراك) باتوا أطرافًا متنافسة تتحيّن الظروف وصولًا إلى محاصصات تضمن مصالحها، ويصعب تحصيل هذه المصالح في سورية واحدة. ولا يُستثنى من ذلك سوى الجانب العربي الذي لم تكن له في أي مرحلة نيات أو مخططات تقسيمية خدمةً لنفوذٍ أو مصالح. أما النظام نفسه فقد جعل من نفسه أحد هؤلاء المتدخّلين، لأن ممارساته لم تعبّر يومًا عن حرص على سورية وشعبها. وما دام الأميركيون يعملون للتقسيم، كما يقول الأسد، فهل أن رفضهم الدائم إطاحته جزءٌ من المخطط؟

كل ما فعله الأسد ونظامه وإيرانيّوه من تخريب اجتماعي وعمراني واقتصادي في سورية، كان بهدف التهرّب من أي مشاركة أو «إصلاح» سياسيَّين ينهيان عمليًا حكم العائلة – الطائفة المتخفّي وراء غلاف واهٍ وفّره حزب البعث «العلماني» (؟). كان الأهم في دمشق وطهران أن يبقى نظام الأسد لا أن تبقى سورية، لذلك اختُرعت «المؤامرة الكونية» لتسويغ القمع الوحشي واستدراج البلد إلى حرب أهلية، ولما لم تُهزم «المؤامرة» لجأ الأسد والإيرانيون إلى حيلة الإرهاب للتشهير دوليًا بالمعارضة سعيًا إلى سيناريو «حرب كونية» ظهر بعض معالمها منذ التدخّل الروسي، لكن بقي هدفها البحث عن تسويات دولية – إقليمية سعيًا إلى تقاسم سورية.

يعرف الروس والإيرانيون أن بقاء الأسد لم يعد عنوانًا لبقاء الدولة بل بات مجرّد وسيلة لـ «تشريع» أدوارهم واحتلالاتهم، واستطرادًا لم يعد نظامه قادرًا على الحكم أو جديرًا به إلا بوجودهم الدائم في سورية والحفاظ على الأسد صورةً وواجهةً لما يقررونه. لكن تحصين احتلالاتهم يحتاج إلى بلورة التقسيم في تسوية دولية – إقليمية، وهم يستخدمون معركة حلب كبداية ضغط على الإدارة الأميركية المقبلة للتعجيل بتلك التسوية. وفي الانتظار، قد يعملون على «عملية سياسية» ولو ملفّقة بمشاركة بعض «المعارضات» الصُورية التي ساهموا في تصنيعها لإعادة إنتاج النظام السابق مع بعض التعديلات.

_____

(*) كاتب وصحافي لبناني.

Author

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق