يترك غياب الفاعل السياسي في المشرق العربي الساحة لاحتكار القوى الدولية القادرة على فرض رؤاها. أفضى انهيار المجتمعات العربية وانحسارها إلى مكونات طائفية وعرقية إلى استتباعها من قبل دول لا تعنيها بكثير أو قليل مصالح سكان المنطقة الذين لا يزيدون في نظرها عن أحجار شطرنج وأوراق لعب.
تقوم واحدة من أكثر المقولات ذرائعية في تبرير هزيمة الثورات العربية، على أن الانتكاسة الحالية لا تزيد عن كونها نهاية الطور الأول من الثورات وان الأحداث التاريخية الكبرى، على غرار نهاية الدولة التسلطية الاستبدادية في المشرق العربي، تتطلب زمنًا طويلًا وممرات إجبارية في عكس اتجاه تقدم التاريخ. تعطي هذه المقولات نماذج مثل هزيمة ربيع الشعوب في أوروبا عام 1848 وفشل ثورة 1905 في روسيا وتستشهد بكلمة قالها رئيس الوزراء الصيني شو ان لاي عن أنه ما زال مبكرًا تقييم الثورة الفرنسية.
لا مبالغة في أن الخزعبلات المشابهة تتأسس على نزعتين. الأولى تعويضية للتخفيف من هول الكارثة التي أصابت الشعوب العربية وشكلت ردة الى زمن يساوي في سوئه الزمن السابق على الثورات إن لم يفقه مأسوية. والثانية، تعتمد التضليل في قراءة تجارب التاريخ الأوروبي. نهاية «ربيع الشعوب» الأوروبي، باختصار شديد، جاء بعد انحياز البرجوازية الصاعدة إلى جانب القوى الملكية ضد الفئات الفقيرة. هذا الانحياز أظهر الحس البراغماتي عند البرجوازية التي راهنت على نهاية الارستقراطيات الملكية وافتقارها إلى رؤية ومشروع مستقبليين بما يجعل من البرجوازية وريثة طبيعة للارستقراطية. كان الانحياز رفضًا للتحالف مع العمال الأقوياء ضد الملكيين المنهكين، ما دام هؤلاء سيختفون بمرور بعض الوقت. وهذا ما حصل قبل أن يطوي القرن التاسع عشر صفحته.
ما من شيء مشابه في الواقع العربي اليوم. ذلك أن بنى الدولة العربية قامت أولًا على استبعاد البرجوازية المنتجة (المسماة وطنية) لمصلحة الفئات الطفيلية المتصالحة مع العسكر ومن في حكمهم، ما حال دون إرساء أسس اقتصاد قادر على فرز قوى اجتماعية واعية لمصالحها ولحقوقها. تغول الدولة الأمنية التسلطية، على نحو ما شهدنا في سورية والعراق، لم يترافق مع تشكيل بدائل ديموقراطية كنقيض للدولة الاستبدادية التي حرصت حرصًا شديدًا على مطاردة كل من يحمل مشروعًا كهذا، بل أفضى الى وسم التغييرات الكبيرة (الغزو الأميركي في العراق والثورة في سورية) بسمة الهوية السابقة على الدولة، وهي الهوية التي وجدت من يرعاها ويمولها ويغذيها بالأفكار والسلاح والمقاتلين.
كان حري بنا أن ننتبه إلى اتساع الدمار الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي خلفته هذه الأنظمة التي تركت بلدانها أشبه بأرض مرّ عليها قطيع من الجواميس المذعورة. وكان حري أن نبدي حذرًا حيال صعوبة البناء في هذا الخراب الذي خلفته السلطات العربية السابقة وتلك التي تمعن في تعميمه تلك التي حلت مكانها. والمقصود بالبناء هو المجتمع الذي يتمتع بحد أقصى من العدالة في ظل حكم قانون ودستور وممثلين لا جدال في شرعيتهم. وما من وهم في أن هذا البناء سينتظر أعوامًا طويلة قبل أن يعود إلى الأضواء.
بيد أن المناخ السائد القائل أصحابه باستحالة التغيير ما دامت القوى الكبرى قد أمسكت ناصية الفعل وحولت ثوراتنا إلى صراعات جيوسياسية، يجد سلفًا له في تمجيد «الاستقرار» الذي كانت تمن به الحكومات العسكرية – المخابراتية على شعوبنا.
(*) كاتب لبناني