مقالات الرأي

شكل سورية المقبل هو بداية الحل

قد يعدّ كثيرون، بحسب الشائع، أن الكلام عن شكل الدولة السورية، بفرض انتهاء الأزمة وسقوط النظام، نوعًا من الترف الفكري حاليًا؛ ويعيدنا هؤلاء إلى مقولة مستمرة منذ 2011، وهي: “لنسقط النظام الآن، ثم نصحح أخطاءنا، ونقرر شكل الدولة”. في الواقع إن ست سنوات من استمرار المأساة والمذبحة في سورية، مع بقاء النظام الأسدي بمكانه أكثر قوة، وصعود قوى إسلامية متطرفة، تحمل عنف النظام نفسه وميليشياته، وانسداد الأفق أمام ما يسمى بمفاوضات المجتمع الدولي حول سورية، يقول: إن تلك المقولة هي الموغلة في الخيال والمثالية والمفتقرة إلى أي عمق برؤية الصراع في سورية.

لقد بات واضحًا، مهما صرخ السوريون ونددوا وبكوا، أن المساومات بين دول معسكر الغرب وتركيا والخليج العربي، وبين معسكر روسيا والصين وإيران والنظام الأسدي، لم ولن تنتهي قريبًا إلى صفقة ترحم السوريين من القتل والتشريد اليومي؛ فموازين القوى بين المعسكرين، وأهمية سورية الاستراتيجية للطرفين، ونوعية المصالح والأهداف، تؤكد كلها أن لا حل قريبًا، سياسيًا أو عسكريًا في سورية؛ فالغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية لا مصلحة له بدفع التكاليف الهائلة اللازمة لإعادة الاستقرار إلى سورية، وهو الوحيد القادر إن أراد، فمن باب الحسابات البسيطة ما بين الربح والخسارة، ما يتوجب على الغرب دفعه لفرض استقرار في سورية، لن يأتي بمرابح تغطي تلك التكاليف، وهي تكاليف ليست مادية فحسب، بل سياسة وعسكرية، تدخل في صراع توزيع القوة ضمن السوق العالمي كله(1).

أما حكومات الخليج العربي وتركيا، فهي لا تملك القوة الكافية، وهي أصلًا لم تملك الإرادة والرؤية لمساعدة سورية على الاستقرار؛ فعلى الرغم من أن استقرار سورية هو مصلحة مباشرة استراتيجية لهذه الدول، إلا أنها ولأسباب ذاتية وموضوعية، لم تملك بُعد النظر الاستراتيجي وحنكة إدارة الإمكانيات، للوصول إلى تحقيق مصالحها في سورية مستقرة.

اعتمادًا على هاتين الحقيقتين، فإن حلف روسيا وإيران والصين والنظام السوري، وبعد الوصول إلى حافة الهزيمة في نهاية 2012، قرر أن يلعب بعامل الوقت؛ لفرض مرتكزات قوة على الأرض السورية، تمنحه عقد ضمان؛ للبقاء فوق معظم الأرض السورية، وصولًا إلى تحجيم المساومة على سورية إلى مساومة على حلب وبعض الشمال السوري.

ما حصل في سورية منذ 2011، كان تراكمًا لأخطاء تلك الأطراف، ثم تحول إلى تشابك شديد التعقيد من المناورات التي تعتمد على مهارة كل طرف في تحويل الأخطاء إلى مرابح بحدها الأدنى، بدلًا من خسارة كل شيء. استطاع الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية أن يكون أكبر الرابحين لحد الآن، وأن يدير الصراع لضمان منع أي خسارة مستقبلية، تاركًا بقية الأطراف الدولية تحاول الخروج بأقل الخسائر الممكنة. أما المعارضة سورية، ممثلة بقياداتها، وكتائب الإعلام الاجتماعي السورية، فقد وجدت نفسها، بوعي أو دون وعي، مجرد بيادق ضعيفة على رقعة الشطرنج، تتحرك وفق إرادات تلك الحكومات والأموال السياسية.

هذا التشابك المعقد للمصالح والأموال والسلاح والإعلام، وبلوغ المآسي السورية اليومية حدًا غير مسبوق من الألم والغضب، وأيضًا اليأس، وبغياب أي قيادة سياسية سورية واعية وطنية ذات رؤيا، ومع سيطرة إعلام سوري مسيَّس، أو فوضوي انفعالي غير مدرك لعمق الصراع، أدى إلى ترسيخ شروخ هائلة بين السوريين على كل المستويات، السياسية والطائفية والقومية، وحول الشارع السوري، لغالبية يائسة تكتفي بالبكاء واللامبالاة، أو لجماعات عصابية انفعالية عمياء، لا ترى الصراع في سورية سوى صراع طوائف وقوميات ومشروعات مؤامراتية.

أمام عمق هذه المأساة، فإن ما تبقى أمام السوريين، وأمام من تبقى من نخبة سورية غير مسيَّسة خارجيًا، إطلاق نقاش شعبي سوري واع، ذي رؤيا عن شكل سورية في المستقبل كدولة مستقلة موحدة، هذا النقاش سيقود إلى توافق جزء من السوريين، جزء سيزداد عددًا؛ حتى يشكل قوة سورية حقيقية تتجاوز طاولة القمار الدولية حول سورية.

نقاش هذا الشكل يستدعي الانطلاق من قواعد مؤسسة هي:

لا يمكن أن تكون سورية دولة عصرية مستقلة بوجود النظام الأسدي الحالي، أو بمنهجيته، أو سلوكه وبنيته، لأنه نظام فاشل ذاتيًا وموضوعيًا، والسنوات الماضية أبرزت فاشيته وعجزه؛ حتى عن حماية نفسه دون دعم مفتوح من حلفائه (2).

لا يمكن أن تكون سورية دولة عصرية مستقلة، كدولة إسلامية سنية، أو كمشروع خلافة، كما يطرح قادة الفصائل المسلحة الإسلامية، وقادة حزب التحرير الإسلامي والإخوان المسلمين (مهما جملوا كلماتهم)؛ فهذه الأيديولوجيات ثبت خواؤها الفكري المؤسس، وسطحية رؤيتها للدولة وللإسلام نفسه، وهي أيضا مرتهنة لمشروعات دولية فوق سورية، ساهمت في تعميق الأزمة السورية وليس في حلها (3).

قيادات المعارضة الحالية الطائفة على السطح إعلاميا وسياسيا، عاجزة بنيويًا وتاريخيًا عن تقديم أنموذج الحل للأزمة السورية، وعاجزة عن كسب ثقة الشعب السوري، بما أثبتته السنوات الماضية، فضلًا عن ضعفها المهين أمام أجندات حكومات الدول المتورطة في الصراع في سورية.

الطرح الليبرالي واليساري والعلماني المتطرف -أيضًا- عاجز بنيويًا عن تقديم أنموذج للدولة السورية، لأنه يرى في الشعب السوري، الذي يدعي أنه يعمل لأجله، مجموعة متخلفين متعصبين طائفيًا وقبليًا وقوميًا، وشرط تحقيق أنموذجه هو أن يتبنى الإنسان السوري طروحاته كما هي، بكل تعاليها وغطرستها.

الشكل الوحيد المنقذ لسورية، هو الشكل الذي يهدف ببنيته وفكره ومنهجيته إلى إصلاح ما تم تخريبه خلال السنين الماضية، انطلاقًا من إيمان عميق بالإنسان السوري وأهليته، وصولًا إلى تأسيس دولة تخدم هذا الإنسان؛ ويعمل بوعي على تأسيس الدولة السورية الحاضنة -بعدالة- المواطنين السوريين كافة، وفق بنية مؤسساتية عصرية، وعلى أساس تشريعات وقوانين صلبة وواضحة وضامنة لحقوق الإنسان، كما نصت عليها الشرائع الدولية.

هذا الشكل لا يمكن تحقيقه إلا بإقرار النظام الديمقراطي، كثقافة وممارسة ومؤسسات، وليس كصناديق انتخابات فحسب، وبتبني النظام العلماني العصري، الذي يعني حيادية الدولة تجاه الأديان والطوائف، ويمنع المؤسسة الدينية من التدخل في الدولة ومؤسساتها، ويضعها في مكانها الملائم، كمصدر تأطير للأديان والطوائف وفق حرية العقيدة للمواطنين. وفق هذا الشكل -وحده- يمكن التخلص من آثار التجييش والتحاقد الطائفي والسياسي والعرقي بين مكونات الشعب السوري.

هذا التصور للدولة السورية ليس ضربًا من الخيال والمثالية، بل قبولًا بحقائق الواقع، التي تقرر أن لا سبيل للسوريين، في خضم هذا الصراع المعقد ماليًا وعسكريًا وسياسيًا، سوى تأسيس دولتهم، بداية كفكرة تتوسع أفقيًا، لتصل إلى لحظة ملائمة، تصبح بها أقوى من أموال الحكومات المتصارعة وأسلحتهم، وتجبرهم على تقديم الحل الذي يعجزون عن الوصول إليه، إنه الحل الذي يراهن على قوة الكلمة والفكرة الوطنية الإنسانية، مقابل قوة المال والسلاح المتحكم به خارجيًا.

في هذا المقال تم طرح هذه الأفكار بكثافة، أفكار بحاجة لمقالات أخرى مختصرة ومبسطة، تتناول هذه الطروحات بتفصيل أكثر.

 

1 – للمزيد حول السياسة الأميركية يمكن العودة لدراستنا على موقع حرمون بعنوان “السياسة الأميركية ليست في حاجة إلى حسم الأزمة السورية” على هذا الرابط: http://all4syria.info/Archive/320673

2 – 3 – للمزيد حول استحالة خياري النظام أو الإسلاميين يمكن العودة لدراستنا على موقع حرمون بعنوان “هل سورية بين خيارين فقط: النظام أو الإسلاميون؟” على هذا الرابط: http://www.harmoon.org/archives/1410

 

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق