مبادرات التجمع والمأسسة للجاليات السورية في بلاد الاغتراب في السنوات الأولى للثورة كانت عديدة، وبذلت مجهودات كبيرة لأجلها، قليلها نجح وكثيرها فشل، لأسباب تتعلق بتطورات الثورة نفسها، وبرواسب عقود الاستبداد الطويلة، وبروز الأجندات السياسية، ومحاولات الهيمنة والتسلق؛ وحتى الاختراق من عناصر تابعة للنظام.
“درب الآلام” الذي سلكه مئات الآلاف من السوريين لم ينته بوصولهم إلى بلاد أوروبا، والغرب عمومًا، ففي أوطانهم الجديدة، الموقتة أو الدائمة، تنتظرهم صعوبات شتى وتحديات عديدة، لن يكون التغلب عليها، أو تجاوزها، سهلًا ويسيرًا، ما لم يتمكنوا من تنظيم شؤون حياتهم، ويتحولوا من أعداد وأرقام يعيشون على هامش تلك المجتمعات تتقاذفهم مؤثراتها العاتية، إلى نوع وحالة ملموسة وفاعلة، تعبر عنهم وعن تطلعاتهم وآمالهم وأحلامهم، في ظل ما يكتنف هجرتهم القسرية من مخاطر ومصاعب تهدد ثقافتهم وهويتهم بالضياع والانحلال، من جراء برامج الدمج والاستيعاب، من ناحية، وحماية حقوقهم أمام موجات العنصرية والتمييز والعداء للمهاجرين المتصاعدة بشكل خطر، من ناحية أخرى.
سنوات عديدة في المهاجر لم تتح الفرصة للسوريين تنظيم جالياتهم بشكل لائق ومحترم، ومستقل، بعيدًا عن هيمنة النظام والتبعية له، فقد كان حالهم، أفرادًا، أو أعدادًا قليلة، معزولة من النخب السياسية والمثقفين المنفيين، طوعًا أو قسرًا، أو مجاميع خائفة من بطش النظام، ولا تملك من قرار نفسها شيئًا، ظلت دائرة في فلكه، لا تخرج عن طوعه وتعليماته، فلم يتمكنوا من اتخاذ مبادرات فاعلة وحركية بهذا الشأن.
خوف السوري من أخيه السوري، سابقًا، إضافة إلى عوامل أخرى، كلها نتاج الاستبداد، منعت السوريين من التجمع في روابط ومؤسسات ونواد، توفر التواصل بينهم، وتخلق حالة تفاعل حول قضاياهم وهموهم، في مواطن إقامتهم أو مع بلدهم الأصل؛ ما أعاق أي جهد لخلق جماعات ضغط “لوبيات”، ذات وزن وتأثير كبيرين، على الرغم من حجم وجودهم الكبير، وأهميتهم الاقتصادية والعلمية والثقافية والاجتماعية، في تلك المجتمعات.
في سنوات ما قبل الثورة، أدرك النظام أهمية الجاليات في بلاد الاغتراب، فعمل على تأسيس روابط للمغتربين، تحت هيمنته وإشرافه، واستُحدث وزارة خاصة تُعنى بشؤونهم، وعقد لهم المؤتمرات في دمشق، في إطار إحكام سيطرته واستحواذه على المجتمع ومواطنيه، ولتكون امتدادًا لأجهزة استخباراته، وتقوم بمهمات التجسس في الخارج، تكمل ما تقوم به هذه الأجهزة المتعددة والمتضخمة داخل الوطن، ولتحبط محاولات ولادة أشكال من التجمع، تليق بالسوريين ومكانتهم وتاريخهم وحضارتهم.
بعد انطلاق الثورة جرت محاولات عديدة لتأطير السوريين، فتشكلت تنسيقيات الدعم وهيئات الاغاثة، وعُقدت المؤتمرات، وبدأ السوريون يتعرفون على بعضهم بعضًا، ويكتشفون امكاناتهم، إلا أن كل ذلك لم يرق إلى المستوى المطلوب منهم، والدور المنوط بهم، باستثناءات قليلة ومحدودة، على مستوى كل بلد على حدة، أو ضمن النطاق الجغرافي الواحد، وظلوا جماعات متفرقة ومتناحرة، تحكمهم عصبيات المناطقية والمذهبية والقومية والحزبية. (اتحاد السوريين في المهجر الذي تأسس في أيلول/ سبتمبر 2011، في العاصمة النمساوية فيينا، من ممثلين عن 24 دولة أوروبية – روابط لأبناء المحافظات/ درعا – حمص – حماه).
ومع ذلك، لا يخلو الواقع من نقاط مضيئة؛ فعلى سبيل المثال: في جمهورية رومانيا، تأسست أول جالية سورية مستقلة على مستوى العالم، وعقدت مؤتمرها التأسيسي في 29/ 7/ 2011، ولا تزال مستمرة في نشاطها وفعاليتها حتى اليوم.
الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة الذي كان مأمولًا منه أن يشكل رافعة وطنية، بقي اهتمامه بشؤون الجاليات صفريًا، ولم يتعد تسمية مكتب ومسؤول عن شؤون الجاليات (سمى بعض السفراء في بعض الدول، وقام بافتتاح بعض المكاتب)، ومحاولة فاشلة لتشكيل مجالس للجاليات على مستوى العالم أيلول/ سبتمبر 2014، رغم تشكيل نواة أولى للقيام بهذا الدور وصياغة لائحة داخلية، إلا أنها بقيت في حيز الأمنيات، بل الخيبات.
حداثة عهد السوريين بالتجمع، لم تمنعهم من القيام بنشاطات مشتركة على مستوى العديد من دول العالم ونجاحهم في ذلك (حملة المعتقلون أولًا_ اليوم العالمي للتضامن مع الشعب السوري)، وقوافل الإغاثة العديدة والكثيرة التي ساهمت بسد حاجات كثيرين، ولا تزال، إضافة إلى قوافل الدعم السياسي والمعنوي (قافلة الحرية 1 و2 قافلة طريق الحرير من أجل السلام والحرية في سورية).
أمام مخاطر الاندماج الكامل والتوطين، مع ضبابية آفاق الصراع في سورية، تبرز ضرورة انتظام جميع السوريين في روابط ومنظمات اجتماعية وثقافية، اقتداء بجاليات أخرى، ليست أنضج وأقدر منهم، وبالمقارنة مع منظمات ومؤسسات ناشطة وفاعلة على مستوى العالم (الكردية – الفلسطينية – الحركة الإسلامية)، خصوصًا أن هناك من بين المهاجرين الجدد من هم أصحاب تجارب في العمل السياسي الحزبي، والمجتمع المدني، الحقوقي والخيري، وهو ما يوفر اليوم فرصة كبيرة؛ لتجاوز التفكير بالخلاص الفردي، وإيجاد الحلول الشخصية، التي لن تحول أو تمنع تلك المخاطر، بل الكوارث المحدقة، خصوصا لأبناء الجيلين: الثاني والثالث من المهاجرين.
يدرك السوريون، عمومًا، أهمية جالياتهم ودورها في بلاد الاغتراب، على المستويات كافة، لجهة دعم ثورتهم وقضيتهم، اليوم، وغدًا في إعادة بناء وطنهم، بعد أن أصبح نصفهم أو أكثر في الشتات، ومعظمهم من أصحاب الكفاءات العلمية والمهنية، ومن فئة الشباب الذين يعول عليهم حاضرًا ومستقبلًا، إلا أن هذا الإدراك، حتى الآن، ينقصه اتخاذ المبادرات الفاعلة للمأسسة والتأطير.
واحدة من معايير رقي وتحضر الأفراد والجماعات مقدرتها على التنظيم والتعبير عن نفسها، وهو ما يمثل ضرورة حياة للمجاميع البشرية الكبيرة التي وصلت حديثًا، إضافة لمن سبقوهم، وتحتاج إلى صنوف عديدة من العناية والرعاية والمساعدة غير ما تقدمه لهم الدول المضيفة وتوفره من فرص.
الوجود السوري الذي يعود لعقود مضت في بعض دول العالم لا يليق به حالة انعدام الوزن الحالية، ما يقتضي سرعة اتخاذ المبادرات بهذا الشأن، سدًا لحاجة وفراغ كبيرين، وربطًا وتطويرًا لأدائهم، خصوصًا في البلدان ذات العلاقة المباشرة بقضيتهم.
السوريون أمام تحدي الوجود والبقاء، أمام آلة الموت التي تقتلهم في داخل وطنهم، ليل نهار، ومخاطر التذويب والضياع في بلاد المهاجر، وأمام هذه المخاطر والتحديات يكون، السوري، أو لا يكون. مهمات شاقة وعسيرة ولكنها ليست مستحيلة.