اقتصاد

أطياف ماركس

رأى ماركس -منذ القرن التاسع عشر- أن التناقض الرئيس في المجتمع الرأسمالي، هو التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج، من جهة، والطابع الفردي للملكية الخاصة، من جهة أخرى، فبحسب ماركس، مع تقدم الثورة الصناعية ونمو الرأسمالية، يتزايد الطابع الاجتماعي للإنتاج، مع التحول من الحِرَفي الفرد والورشة الصغيرة، الى المصانع الكبيرة التي يعمل فيها مئات وآلاف، وفي بعضها مئات الآلاف من المشتغلين اليوم، مصانع وشركات تتزود من مصادر مختلفة بمستلزماتها السلعية والخدمية، وتوزع منتجاتها على قطاع واسع من الزبائن، سواء كانوا شركات أخرى أم مستهلكين أفرادًا، محليين أم في دول أخرى، قريبة أم بعيدة؛ ما يوسع قاعدة المشاركين في العملية الإنتاجية، ويخلق مصالح متشابكة ومترابطة لعملية الإنتاج، لم يشهدها التاريخ من قبل. ولكن من جهة أخرى، بقيت معظم ملكية وسائل الإنتاج للشركات والمصانع، والمزارع ملكية خاصة لأفراد أو عائلات، وعلى الرغم من توسع قاعدة الملكية، وظهور الشركات المساهمة والجمعيات التعاونية والشركات الحكومية والمنظمات غير الربحية، فمازالت الملكية الخاصة الفردية تشكل العمود الفقري لملكية وسائل الإنتاج، وقد رأى ماركس أن هذا التناقض يعيق تطور القدرة الإنتاجية وعملية الإنتاج بحد ذاتها؛ لأنه يخضعها لمصالح المالكين، أي لمصالح “مبدأ الربح أولًا” الذي يخلق آثارًا سلبية كبيرة، وفسادًا وتهربًا ضريبيًا، وهدرًا وميولًا عدوانية وجرمية أيضًا، بل ويعيق تطور القدرات الإنتاجية، إضافة إلى كونه غير عادل اجتماعيًا.

الطابع الاجتماعي لعملية الإنتاج تتوسع

اليوم، وبعد مئة وثلاثة وثلاثين عامًا من وفاة ماركس، توسع الطابع الاجتماعي لعملية الإنتاج مرات ومرات، والأهم أنه خرج من الإطار الوطني، وتوسع على النطاق العالمي، فأصبح الترابط بين اقتصاديات بلدان العالم أكبر -بمرات كثيرة- مما كان عليه في القرن التاسع عشر، ومن جهة أخرى، ازداد تحكم المراكز الاقتصادية الكبرى بأطراف الاقتصاد العالمي وبالمستهلكين عبر العالم.

أنا اليوم استخدم لكتابة هذه المادة حاسوبًا من نوع “لينوفو” الصيني، وقد أصبحت شركة “لينوفو” أكبر منتج أجهزة حواسيب شخصية في العالم، كما أستخدم موبايل “آبل” الأميركي، وآخر “سامسونغ” الكوري، وهما الآن رقم واحد في أسواق العالم، وتسيطر هاتان الشركتان، مع عدد محدود آخر من الشركات، على صناعة الموبايلات في العالم، كما أستخدم بطاقات دفع (فيزا) أو (ماستركارد)؛ لتسديد ثمن ما اشتريه؛ وأنا أشبه -بذلك- معظم من يقيم في الصين والهند وفي أوروبا وفي الأميركتين؛ وحتى في أفريقيا.

تتحكم شركات عالمية قليلة بصناعة السيارات، فأينما تجولت في العالم، ترَ ماركات السيارات نفسها، وحين يسافر أيّ منا تكون الطائرة من صنع “إيرباص” أو “بوينغ”، في معظم الأحيان، وعدد قليل من الشركات في العالم يصنع المكنات والأدوات والمعدات والأسلحة، ويسوقها عبر العالم، وعدد قليل من الشركات يتحكم بإنتاج النفط والغاز والطاقات المتجددة عبر العالم، والمنظفات التي نستخدمها سواء للحاجات المنزلية أم الشخصية، ينتج موادها الأولية الفعالة عدد قليل من الشركات، ومثلها الأدوية؛ وحتى لو وجدت شركات صغيرة كثيرة، فإن حصة الشركات الكبرى يبقى أكبر وتتحكم بالسوق. كما أن وسائل التواصل الاجتماعي التي تشبك العالم، تعود جميعها لعدد محدود من الشركات الأميركية التي تبتلع بعضها بعضًا، لتنتج شركات أكبر حجمًا، وأقل عددًا. تصوروا أن مليارين من البشر يستخدمون الـ “فيسبوك”.

في أصقاع الأرض الأربعة تُستخدم سلع وأدوات وخدمات، أنتجتها شركات في أماكن بعيدة، لها مواقع إنتاج، تنتشر في مختلف أرجاء العالم، وتستخدم قوة عمل من دول كثيرة، وتتزود بحاجاتها من مصادر كثيرة، قريبة وبعيدة، وتسوق إنتاجها وخدماتها في معظم دول العالم؛ فيصبح المقيم في أواسط أفريقيا أو الفيليبين أو تركيا أو باريس أو ساو باولو أو واشنطن يستخدم منتجات وخدمات تلك الشركات نفسها، وتصبح مصالح تلك الشركات مرتبطة بجميع هؤلاء عبر العالم.

شركات عملاقة تبلغ قيمتها السوقية عشرات، ومئات مليارات الدولارات، يملك معظم أسهمها عدد محدود من الأفراد. بلغت إيرادات (مبيعات) أكبر 500 شركة في العالم، لعام 2015، نحو 27.6 ألف مليار دولار أميركي، ويشتغل فيها 67 مليون مشتغل، يتوزعون في 33 دولة عبر العالم. مثلًا شركة الأسواق التجارية الأميركية (وول مارت)، بلغت مبيعاتها لسنة 2015 نحو 482 مليارًا، ويعمل فيها 2.3 مليون مشتغل، وهي تتعامل بسلع تأتي من أصقاع الأرض كافة.

احتكار الثروة يتعمق

بحسب تقرير التنمية البشرية لعام 2014، فإن أغنى 85 شخصًا في العالم (ومعظمهم يعيشون في أوروبا الغربية والولايات المتحدة والصين) يستأثرون -وحدهم- بثروة تعادل تقريبًا ما يملكه 3.5 مليار شخص من الأشد فقرًا في العالم، وقد ذكرت منظمة “أوكسفام” الخيرية البريطانية، في تقريرها، أواخر 2014، حول قضية التفاوت واللا مساواة في الثروة حول العالم، أن 85 ثريًا في العالم، لا يتجاوزون عدد ركاب حافلة من طابقين، يكتنزون ثروات تعادل ثروة نصف سكان العالم مجتمعين، أي ما يعادل 3.5 مليارات شخص، حيث إن نصف ثروة العالم التي تبلغ 110 تريليونات دولار، يتمتع بها 1% في المئة من السكان، وهو ما يفوق بخمس وستين مرة ثروة نصف سكان العالم الأقل فقرا، موضحة أن دخول هؤلاء الأشخاص بلغت 240 مليار دولار في السنة الماضية.

تمركز الثروة والسلطة لا يقتصر على الأفراد، بل يتركز هؤلاء الأفراد في عدد محدود من الدول. فالشركات التي تحدثنا عنها، تعود في ملكيتها ومقراتها الرئيسة إلى عدد قليل من دول العالم، في مقدمتها الولايات المتحدة، وأصبحت الصين وراءها، تليها اليابان، ثم ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا والهند، والى حد ما البرازيل واستراليا وجنوب أفريقيا. أما روسيا فدورها مازال ثانويًا في هذه السيطرة.

الأضرار للعموم والمنافع للخاصة

الشركات التي تحدثنا عنها أنتجت -وتنتج- كثيرًا من التلوث، متسببة في احترار الغلاف الجوي، وذوبان الجليد في القطبين، وارتفاع منسوب مياه البحار؛ ما يسبب غرق مدن في بلدان أخرى بعيدة، وبتغير المناخ تأتي الأمطار في غير مواسمها، مسببة اضطرابات للإنتاج الزراعي، وتكثر الفيضانات والأعاصير، تدمر مدنًا وبلدات وقرى كثيرة، لم تسهم في تلويث البيئة ولا احترار الأرض. وتبرز اليوم أمراض جديدة، لم تكن معروفة من قبل، مثل: الإيدز، وجنون البقر، وزيكا، وإيبولا وغيرها، وبعضها أمراض معدية وبائية، وبسبب كثرة الانتقال تنتقل بسهولة إلى دول أخرى وأخرى.

الدولار هو العملة الرئيسة في اقتصاد العالم، بينما يعود إصداره والتحكم به إلى الولايات المتحدة، وتُسعّر بورصات السلع به (ذهب، فضة، نفط، غاز، نحاس، نيكل، قمح وغيرها)، والدولار مازال العملة الرئيسة في احتياطيات البنوك المركزية، ونفع هذه التعاملات يعود على أميركا لوحدها، وتوجد عملات لها وضع مماثل، كاليورو والإسترليني والفرنك السويسري، وتسعى الصين لحصد حصتها بعملتها اليوان، فتطرحها لتكون عملة عالمية. ومرة أخرى، فإن هذا العدد القليل من العملات يحصد المنافع من جهات الأرض الأربع، بينما تعود منافعة إلى عدد قليل من الدول صاحبة العملات، بل وطبقات صغيرة ضمن هذه البلدان.

الدول الكبرى وشركاتها الكبرى تحّرض نمط استهلاك، انطلاقًا من مستويات تقدم اقتصاداتها ونمو بلدانها، وتصدره عبر العالم الذي يترابط بقوة كل يوم، محرضًا أنماط استهلاك في الدول الفقيرة، لا تتناسب مع مستويات تطورها الاقتصادي، وتقوم الدول الغنية باستغلال ثروات البلدان الفقيرة، ومناجم ثرواتها الطبيعية بأسعار بخسة، وتعيدها إليها منتجات تامة الصنع، بأسعار باهظة.

يبلغ وسطي أجر ساعة عمل المشتغل في الدول الفقيرة، وحتى متوسطة النمو، بين نصف دولار ودولارين، بينما يزيد وسطي أجر ساعة المشتغل في الدول المتقدمة عن 8 إلى 12 دولار، ويقوم المشتغل في الدول المتقدمة بإنتاج سلع تُصدّر إلى الدول النامية، ويقبض أجرًا مرتفعًا عما بذله فيها من جهد، ليشتريها المستهلك في الدول الفقيرة، وهو صاحب دخل منخفض، بالأسعار المرتفعة نفسها، وهذا تبسيط للتبادل غير المتكافئ بين الدول الفقيرة والغنية.

الدول المتقدمة تضع أنظمة كل شيء في العالم، بدءًا من الأنظمة الاقتصادية، وقواعد التجارة العالمية، وأنظمة النقل البري والبحري والجوي، وقواعد حماية البيئة، وأسس وعمل البنوك وأسواق المال، وانتهاءً بأشكال وأدوات التسلية، وتمضية أوقات الفراغ، مرورًا بأنظمة التعليم، وتنظيم البوليس والجيوش، وتنتج أسلحتها وتجهيزاتها، وتتحكم بالأمم المتحدة، بينما تبقى البلدان النامية متلقية ومستوردة. وكما يقول المثل الشعبي: من بيده الدفتر لا يكتب اسمه بين الأشقياء.

الحاجة لنظام عالمي جديد

لم يبلغ المجتمع الإنساني في أي يوم من الأيام، سواء على صعيد كل بلد أم على صعيد البشرية ككل، هذه السوية من التشابك والاندماج والتنميط، ولم يبلغ الطابع الاجتماعي للإنتاج هذا المستوى من الجماعية، بينما تتمركز القوة المالية والعسكرية في أيدٍ قليلة، وفي عدد أقل من الدول؛ ما يزيد من التناقض بين الطابع الاجتماعي المتنامي لعملية الإنتاج الاجتماعي على الصعيدين: الوطني والعالمي، وبين الطابع الفردي للتملك على الصعيدين: الوطني والعالمي أيضًا.

تمثل الأمم المتحدة المجتمع الإنساني على كوكب الأرض، أو هكذا يفترض فيها أن تكون، وأن تشكل بداية لحكومة عالمية تقوم بعدد أكبر من المهمات التي يتطلبها تحول المجتمع الإنساني الذي يتشابك ويتنمط ويندمج، ويصبح بحاجة أكبر إلى مؤسسة تدير المشتركات المتنامية بين مجموعة البشر على وجه البسيطة، ولكن بقيت هذه المؤسسة تحت رحمة الدول الكبرى، ويتم تفعيلها أو تعطيلها بحسب مصالح تلك الدول، التي يحكم سلوكها مبدأ أولوية الربح على أولوية مواجهة المشكلات، وخاصة الدول الخمس التي تملك حق النقض “الفيتو”، وهو أمر يتعارض مع الديمقراطية والعدالة والمساواة، ويعزز تحكم هذه الدول بمصالح الآخرين. وترمي الدول الكبرى بهذه المنظمة جانبًا، وتتجاوزها عندما لا تستطيع توجيه قراراتها وفق مشيئتها، كما فعلت الولايات المتحدة في غزوها للعراق، بذرائع كاذبة، متسببة بفتح جرح عراقي لن يندمل قبل عقود.

إننا نصبح كل يوم بحاجة ماسة أكبر لتقديم مبدأ مواجهة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والبيئة، ومنحها الأولوية على مبدأ أولوية الربح السائد الآن، أولوية الإنسان على أولوية تكديس المال ومركزة السلطة.

إن التناقض الذي تحدث عنه ماركس بين الطابع الاجتماعي للإنتاج، والطابع الفردي للتملك، يبرز بقوة أكبر وأكبر كل يوم، ويصبح العالم يومًا بعد يوم بحاجة أشد إلى نظام اجتماعي أكثر عدلًا في توزيع الدخل والثروة على الصعيد الوطني، وإلى نظام عالمي ومؤسسات دولية أكثر توازنًا وإنصافًا بين الدول والشعوب.

إن أطياف ماركس تعود بقوة أكبر.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق