بعد أن أصبحت سورية بقعة خصبة للتدخلات الدولية، وفيها كل المسببات التي تجذب الدول الأخرى إليها، حيث قدّمها النظام على طبق من ذهب، حلبةَ صراع يستغلها الآخرون لتجيير نتائجها لمصالحهم، بمن فيهم المتطرفون، حيث ذكرت تقارير عديدة أن النظام السوري جاذب للتطرف والإرهاب، وبهذا غابت الدولة عن قرارها السيادي، وأصبح الأسد موجودًا لحاجة الصراع إليه؛ كي تبقى فصوله مستمرة، تمامًا كحاجة هذا الصراع إلى “تنظيم الدولة الإسلامية”، وغيره من التنظيمات “الجهادية”، سواء أكانت القاعدة بمن يمثلها، أم حزب الله، وعصائب أهل الحق، وميليشيا أبو الفضل العباس، والعشرات من تلك التنظيمات التي سينتهي مفعولها، كما الأسد والنظام بانتهاء الدور.
في هذا الصراع متعدد الأوجه، والذي كان من محاسنه -على الرغم من حجم الكارثة الإنسانية التي ما زالت ترافقه- أنه عرّى كثيرًا من الأفكار، وجعلها تواجه الحقائق -مباشرة- دون أي مواربة، وبالذات الأفكار الأيديولوجيّة، إن كانت دينية أم يسارية أم قومية، كما وضع بنية الأنظمة العربية على المحك؛ فبدت مُرتبكة وعاجزة عن اتخاذ أي قرار يتعلق حتى بأمنها الوطني، إن لم نقل الأمن القومي العربي الذي يدّعونه، منذ أن بدأت هذه الدول تعبّر عن سيادتها في منتصف القرن الماضي، كما أظهر الصراع -بوضوح- أن ما سبق من ثورات ربيع عربي، لم يرتق -بعد- حتى إلى مفهوم الإصلاح، وهي لم تُمارس من الفعل الثوري سوى أنها أزالت أوجه أنظمة، واستبدلتها بأوجه أخرى من ذات العجينة الأمنية، بل قد يكون بعضها أخطر؛ كونه تستّر الآن بشعار جديد، إنه نتاج ثورة جماهيرية، وليس انقلابًا عسكريًا سُمّي ثورة، كما حصل في القرن الماضي.
لا بد من الإشارة كذلك إلى أن حجم الصراع، وهذا الكم من الجرائم، كشف هشاشة الأدوات التي ارتكز عليها القانون الدولي، والاتفاقيات الخاصة بحقوق الإنسان، وكافة المواثيق والمعاهدات التي عُدّت ثورة أخلاقية في وجه العسف والعنجهية، التي كانت ترافق السلطات السياسية في القرون السابقة، من حيث السطوة والعنف بلا رقابة أو محاسبة، حيث أن كثيرًا من مفاصل الثورات الحديثة، كانت مبنية على هذا التوق إلى الحرية، التي ساهمت الثورة الرقمية والاتصالات، بنقل صورتها إلى كل بيت، بوصفها مُثلًا عليا للبشرية، ومن حق الشعوب التمتع بها، فإذ بتلك الشعارات البراقة والقوانين المرافقة بدت مكبّلة، وغير قادرة على القيام بدورها الذي أنشئت من أجله، وبدت تلك المنظومة أشبه بشاعر ينقل المآسي، بتعابير عاطفية، لا تغني ولا تسمن من جوع.
هكذا الصراع يدور على أرضٍ، تُعد -تاريخيًا- ميدان صدام حضارات وجيوش وتوازنات، ولكن لا بد من طرح السؤال الأهم، وهو أين تخط الثورة مسارها في زحمة هذا الصراع الدولي، وخاصة أنها ثورة شعبية، وهي من أشعلت الفتيل مع أول هتاف لها.
قد يبدو للوهلة الأولى أن المشهد متداخل، وأن الثورة جزء من هذا الصراع، كبقية المكوّنات التي شكّلت أطرافه، ولكن التدقيق في جوانب هذا الصراع، سيقودنا إلى استنتاج آخر أكثر عدلًا، فالثورة -في حقيقتها- هي سورية التي ولدت من جديد، وهي ليست طرفًا بل مركزًا، أي أن الثورة انتصرت كفكرة، وأخذت تشق طريق بناء أركانها منذ أن سيطرت على أول شارع لها، وما تقدّمه اليوم من ضحايا هو دفاع عن سورية الجديدة، في وجه كل أولئك، وهي التي جعلتهم يمارسون كل هذا العنف، وبتلك الهمجية التي تدل على ضعفهم، وهي التي بالمحصلة عطّلت إنجاز مخططاتهم حتى الآن، فأطراف الصراع المحيطة بالنظام أخذت من النظام كل ما طلبته، وتدرك –في الوقت نفسه- أنها إن تخلت عنه؛ فسيظهر جثةً هامدة بلا حراك، كما تدرك تلك القوى (الإيرانية والروسية والإسرائيلية) -بشكل رئيس- أن سورية الجديدة -أي: الثورة- تمتلك كل مقومات إفشال ما أخذته من النظام في أي لحظة، ولكن هل من ادّعى مساعدته للثورة، إن تخلى عنها، ستموت مجموعته (مجموعة أصدقاء الشعب السوري)، على الرغم من أن معطيات الواقع تدل على أن لا أحد يساندها، والجميع يريد تفكيكها للحصول على مكاسبه من الصراع.
الطلاسم التي تحيط بفهم المشهد، بصورته المتكاملة، هي ما تسعى أطراف هذا الصراع إلى تثبيتها، سواء أكان الطرف أميركا أم روسيا أم أوروبا أم القوى الإقليمية والعربية، ليس لأنها مُستفيدة من ذلك، بل لجعل أبناء الثورة الطيبين يكفّون عن النبض بها؛ لإقناعهم بأنها فشلت، وعليهم القبول بذلك الفتات الذي سيُقدّم لهم بعد ضمان مصالح الآخرين، لكنهم يُدركون -بوضوح- أنهم يتعاملون مع مجتمع حي، يحافظ -حتى في الشتات- على عناصر انتمائه لوطنه السوري، وابتدأ يصنع منظماته وصحفه وأحزابه وأدبه وفنه، وما إلى ذلك، وفي الوقت نفسه، يعمل على استعادة عناصر ماضيه العريق، ويناور بالسياسة وبالقتال، ومن أدواته البسيطة يصنع أسباب الحياة، بل إن صغاره وكباره ما زالوا يهتفون من أسفل الركام لوطنهم، توالدوا وأنجبوا وصمدوا في وجه كل الأسلحة، يدرسون دساتير متنوعة لبلدهم، وهم في أضيق الأوقات، ويطرحون مبادئ العدالة الانتقالية، ويحاججون بها، بل يحللون سياسات العالم ويقترحون حلولًا لأزماته، ولهذا يعمل الجميع على إبقاء المشهد ضبابيًا أمام هذا الشعب، بينما الحقيقة الأخرى أنّ كل من دسّ يدًا في هذا الصراع، هو من يعيش حالة طلاسم أو ضبابية، وقد أدخلتهم الثورة في عنق زجاجة، دولًا وهيئات وأحزابًا ومنظمات، ومن المرجّح أنها ستستمر بهذا الزخم؛ حتى يتشكل نظام عالمي جديد، أكثر رقيًا مما سعت إليه البشرية، وفشل في تطوير ذاته؛ إذ استطاع ديكتاتور صغير أن يُعيد البشرية إلى العصور المظلمة، دون رادع.