في مقال نشرته مجلة المصباح البيروتية عام 1980، يتساءل الكاتب عن مصير منصب الرئاسة الأميركية، ومما جاء فيه: “نظرتان في انتخابات الرئاسة الأميركية؛ تقول الأولى: إن هذه الانتخابات دليل جديد على صحة النظام الديمقراطي؛ إذ لو لم تكن الديمقراطية الأميركية في وضع صحي، لما توصل رجال في هذا المستوى، إلى ترشيح أنفسهم لمنصب رئاسة الجمهورية، وتقول النظرة الأخرى: إن هذه الانتخابات هي دليل جديد على أن التاريخ أقوى من الأنظمة السياسية جميعها، ودورته لا مفر منها، وأنه حين تأتي ساعة تداعي دولة من الدول، فلن ينفع لتفادي مصيرها الحتمي أي نظام من أنظمة الحكم. وتستشهد النظرة الثانية هذه بالتاريخ، وبهبوط مستوى الزعامات السياسية اليوم، ليس في الولايات المتحدة فحسب، بل في أغلب دول العالم”.
لن أبحث عن الآثار التي ستتركها نتائج الانتخابات الأميركية على الوضع السوري، فنتائجها، بما يخصّنا، لم تتغير منذ الخمسينيات، ويمكن ملاحظة تجليات هذا الأمر -بسهولة- منذ اتفاقيات كامب ديفيد؛ حتـى وقتنا الحالي، على الوضع الفلسطيني، الذي كان يزداد سوءًا بعد كل انتخابات أميركية، بغض النظر عن الرابح فيها. وبما أنني لست من هواة التنجيم وقراءة الكف، كي أنام مطمئنا إلى “تبصير” السياسيين العرب عامة، وأصدقاء أميركا في المعارضة السورية، خاصة، فأعيش حلم يقظة بأن فوز هيلاري كلينتون قد يُساعد في دعم الثورة السورية، وأن فوز ترامب ضدها.
لم يكن دونالد ترامب يبحث عن الاختلاف عندما هدد هيلاري كلينتون بالسجن، في حال فوزه وجلوسه في البيت الأبيض، حالة فردية في الولايات المتحدة، وإنما كان يُعبّر -بفصاحة قلّ مثيلها- عن قطاع غير قليل من الشعب الأميركي، وعن انحطاط السياسة، أميركيًا وعالميًا، فهو إضافة إلى موقفه من النساء، الذي لا يختلف في الجوهر عن موقف عدوه الافتراضي “الخليفة البغدادي”، يرى في بشار الأسد، على الرغم من عدم محبته له، نصيرًا مهمًا لمحاربة التطرف الإسلامي، وفي الرئيس الروسي حليفًا استراتيجيًا لمواجهة مشكلات العالم وحلها على الطريقة “البوتينية”.
لذلك، لم يكن الفيتو الخامس الذي استخدمته روسيا ضد المشروع الفرنسي، الداعي لوقف حمام الدم في حلب، في مجلس الأمن، هو ما جعل هذه المنظمة الدولية تسقط، فقد كانت ساقطة أخلاقيًا، منذ تأسيسها، عندما قدّمت غطاءً شرعيًا للصهيونية في عملية تهجير الشعب الفلسطيني، واحتلال فلسطين، وشرعنة احتلال أراض سورية ومصرية وفلسطينية لاحقًا، بل هو ما قاله حقًا الفيتو بأن العالم المعاصر قد أصبح دون أخلاق.
في الجانب السوري، نقرأ بعض علامات انحطاط الأخلاق والسياسة في حفلات الرقص الصاخبة التي أقامها سوريون، في ساحة الأمويين وغيرها، على أشلاء سوريين آخرين مزّقتهم أسلحة روسية وأسدية، بالإضافة إلى السقوط الأخلاقي لبعض حملة السلاح والأقلام على الضفة “الثائرة”.
في شهادة حية لست بحاجة لها؛ كي أعرف عمق الشرخ بين السوريين وانعدام الحس الإنساني، قال لي أحد الحلبيين في مونتريال: هل سمعت عن الانفجارات في حلب؟ قلت له: نعم أسمع هذا كل يوم. قال: لقد قتل القصف البربري الهمجي الإرهابي ستة أشخاص في حي الميدان. سألته: وماذا عن آلاف الضحايا في بقية حلب؟ قال: لم أسمع عن ذلك.
عشنا لعقود من الزمن في ظل “قرع طبول” الديمقراطية وحقوق الإنسان، الصادر من الغرب، عن الحق في الحياة والحرية وتقرير المصير والتفكير والتعبير والتعلم والسفر والمساواة بين الجنسين، وما إن بدأت الثورة السورية؛ حتى بدأت هذه الشعارات تنهار، الواحد وراء الآخر، وكان انكشافها التام مع وصول اللاجئين السوريين إلى أوروبا وبقية بلدان العالم، فكانت “لوبان” الفرنسية صدى “لترامب” الأميركي. وكان الإعلام الغربي هو المروج للبعبع “الإسلامي” القادم من الشرق إلى الغرب لالتهامه، وكأن لحية غير مشذبة وقطعة قماش تغطي رأس امرأة أخطر من السلاح الكيماوي الذي استخدمه الأسد ضد شعبه، وعلى الغرب مواجهة هذا الخطر النووي الذي يهتف: “الله أكبر”!
لقد جرّد نظام الأسد والعالم السوريين من كل أنواع الأسلحة، ولم يبق عندهم غير الله، وهاهم يُحاولون، عبر اتهامهم بالإرهاب، من تجريدهم من الله أيضًا.
في مقال كتبه المرحوم الدكتور محمد حاج حسين، قبل حوالي 20 عامًا، قال فيه: عندما تسكن في وسط حي قذر، فيجب عليك ألا تحلم أن يبقى بيتك نظيفًا؛ لذلك لا أحد يُحمّل الشعب السوري أكثر من طاقته.
للأسف نحن نعيش في عالم قذر، وبيتنا يقع في وسط هذا العالم.
إنه زمن انحطاط السياسة وصعود المال.