لا شك في أن من يتابع العلاقات الخليجية مع تركيا، خلال السنوات الأخيرة، وخاصة عقب انطلاقة الربيع العربي، سيجدها غير مستقرة، وبدا واضحًا بعد الانقلاب العسكري الذي أودع محمد مرسي السجن، وجعل عبد الفتاح السيسي يستولي على مقاليد الحكم، إلا أن الدولة الخليجية الوحيدة التي ما زالت علاقتها تسير بشكل إيجابي مع تركيا، هي قطر، حيث بقيت العلاقة مستقرة، وربما متطورة سياسيًا عن غيرها في المنطقة.
شهدت المملكة العربية السعودية، الخميس 13 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، اجتماعًا خليجيًا – تركيًا، على مستوى وزراء الخارجية، كان واضحًا أنه يحمل في طياته، ليس تطوير العلاقات الثنائية بين المجلس، ككتلة متحدة، وتركيا فحسب، أو بين كل دولة من دوله منفردة، وبين تركيا، بل له أبعاد أكثر من ذلك أيضًا، وخاصة بعد التطورات الأخيرة في سورية، وفي منطقة الشرق الأوسط عامة.
من ينظر مبدئيًا إلى البيان الذي صدر عن الاجتماع، يُدرك أن هذه الدول شعرت بفقدانها التأثير في سير الأحداث التي تحيط بها، بل أصبحت أقل من مراقب أو شاهد على ما يجري، وخاصة في سورية والعراق اليمن؛ وحتى في لبنان، وبدت إيران كفاعل مباشر على الأرض، يغذي الصراعات، ويسعى لحصد نتائجها سياسيًا، وربما اقتصاديًا إن نجحت في إتمام لعبتها بدماء شعوب المنطقة، ونسيجهم الاجتماعي، لصالح مشروعها في تصدير أفكار “ثورتها”، وباتت روسيا تتحكم بالقرار الدولي، من خلال وجودها الدائم في مجلس الأمن، وأيضًا بوجودها المباشر على الساحل السوري، بينما تراجعت أميركا عن وعودها، وفقدت بعض الثقة بها من دول المنطقة؛ بسبب موقفها المتردد في فترة حكم الرئيس أوباما، وديبلوماسية كيري الباردة، والتي جعلها وزير الخارجية الروسي لافروف، مدعاة للتندر والابتسام، وبدا الرجل لا يملك صدقية في وعوده، التي انعكست على الخطاب الأميركي كله، وبالتالي؛ على علاقات أميركا المباشرة بالمنطقة، إن كانت مع تركيا أو مع دول مجلس التعاون الخليجي.
في هذا السياق، كان للانقلاب الفاشل في تركيا، ووجود فتح الله كولن في أميركا، وتباطؤ الإدانة الأميركية، وطرق تعامل أميركا مع الملف السوري، أثره المباشر على العلاقات بين أنقرة وواشنطن، أما بالنسبة للعربية السعودية، فإضافة إلى التراخي الأميركي في الملف السوري، وتغاضيها عن الدور الإيراني المخّرب في سورية والمنطقة، وعن الميليشيات الطائفية الموجودة على الأرض، والممولة من إيران، ودور ميليشيا حزب الله التخريبي، في دعم وممارسة الإرهاب بسورية واليمن ولبنان، وعلى الرغم من تصنيف أميركا له على أنه تنظيم إرهابي، إلا أن أميركا تغض النظر عن عملياته الإرهابية كافة، وباتت تتعامل مع قضايا الإرهاب بازدواجية، أثرت على السعودية وعلى دول الخليج العربي عامة، وعلى تركيا؛ فاستفادت إيران وتمددت بسهولة، وكأنها أخذت مغانم توقيعها اتفاقها النووي مع الغرب، ثم جاء قانون “جاستا” الأميركي، الذي يسمح برفع دعاوى على المملكة السعودية، وملاحقتها قانونيًا؛ لطلب تعويضات مالية عن أحداث أيلول/ سبتمبر.
من جانب آخر، كانت العلاقات التركية – المصرية، والتي تدهورت سريعًا بعد انقلاب السيسي، في خلفية تلك العلاقات أو المحددات السياسية، إلا أن مصر بدت دولة غير مهتمة بالقضايا العربية المصيرية، بل اتجهت لتساوم بعلاقاتها مع إيران، مقابل ابتزاز لدول الخليج العربي، على الرغم من كل المساعدات المالية المقدمة لها، ولم تكن حاسمة في مواقفها السياسية مع إيران؛ ليكتمل المشهد بمجلس الأمن، وتصويتها خارج السياق العربي، حيث دعمت مشروع القرار الروسي؛ ما أدى إلى انتقادها من عبد الله المعلمي مندوب السعودية، ثم امتنعت عن دعم المشروع السعودي – القطري، الذي قُدّم للأمم المتحدة؛ حيث تبنته 60 دولة؛ لتقديمة إلى مجلس الأمن.
تطورت العلاقات التركية – السعودية تطورًا ملحوظُا خلال السنة الحالية، وكان من المتوقع أن تُبرم اتفاقيات اقتصادية، وتطوّر الاستثمارات المتبادلة بين البلدين، وكذلك زيادة التنسيق الأمني والسياسي في ملفات المنطقة؛ ليكوّنا نواة تكتل أو تحالف إقليمي فاعل في قضايا عديدة؛ إذ إن العجز عن التأثير في الأحداث السورية، كان واضحًا جدًا، وعندما أُعلن -في نهاية عام 2015، عن التحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب، كان من المفترض أن تكون تركيا والسعودية هما الدولتان المحركتان لبوصلته، وخاصة بعد القيام بمناورات عسكرية مشتركة، في المملكة وفي تركيا، ولكنها كلها ذهبت إلى حالة الانتظار والترقب، ثم النسيان وعدم التحدث بها.
قد تكون تركيا الواجهة المقبلة للاستثمارات الخليجية، وبالذات السعودية والقطرية، وربما البحرينية، وأيضًا قد نشهد انفراجًا بالعلاقات التركية الإماراتية بعد توتر سابق واتهامات متبادلة خلال السنوات الماضية، لكن التوقيع على اتفاقيات في مجال الاستثمار النفطي بين الشركات التركية وشركة “أرامكو” السعودية قبل الاجتماع الأخير بالرياض، هو مؤشر آخر على أن العلاقات قد تتسارع بالاتجاه الإيجابي، وقد يبدو أثرها في التنسيق السياسي الدولي حول الملف السوري، وكان البيان الختامي للقمة يؤكد على هذا الاتجاه، وربما إذا تم الضغط باتجاه ضرورة المشاركة في تقرير شكل الحل في سورية، وعدم ترك الأمور للمزاودة الأميركية الروسية، بعملية شد الحبال دون الاكتراث لمصالح شعوب المنطقة، وبالذات السوريين، سيغير كثيرًا من المعطيات ومن مستقبل المنطقة.
من الواضح أن لقاء القمة الذي جرى في نيسان/ أبريل الماضي، في العاصمة التركية أنقرة، بين الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والذي تم خلاله إنشاء المجلس السعودي – التركي، هو المحطة الأهم في تأسيس علاقات وطيدة بين البلدين، وخاصة في المجال الاستثماري، إلا أن العلاقة التركية – القطرية كان لها دور مؤثر –على ما يبدو- في تطوير وتحسين العلاقات مع بقية مجلس التعاون الخليجي؛ إذ يستطيع كل البلدين؛ حتى نشر قوات عسكرية في كل منهما (إن اقتضت الحاجة)، وهناك تنسيق سياسي عالٍ بينهما في معظم ملفات المنطقة، بما فيها الموقف من الانقلاب العسكري في مصر.
من المرجّح أن تكون التطورات في الملف السوري، هي المؤشّر الحقيقي إلى مدى نجاح التنسيق التركي – الخليجي؛ لأنه إن نجح سيكون له الأثر الأكبر في هذا الملف بالذات، وهذا ما لا يمكن التنبؤ بنتائجه خلال الأيام والأسابيع المقبلة، بل يجب تلمس ذلك على أرض الواقع؛ لنقول إنه بدأ يؤتي أُكله بفعالية.