بَلغت رعونة العنف في سورية حد التخريف بابتكاره تنويعًا فريدًا في سبل القتل، ودخل العنف في سورية، وفي المنطقة كلها، حقل الأضاحي، حيث يضحى بالأضعف من الناس -الأضعف ذهنيًا قبل كل الضعفاء- لإرواء العنف المُبجّل، دون أن يكون ذلك إبدالًا لمسار المضحى به؛ فالشعب يتآكل، يدمر نفسه ذاتيًا دون أن يتعالى عبر هذا التدمير على وضعه القائم، إنه يسفك ثأريًا الدم الذي من خلاله تشكل النسيج الاجتماعي وارتقى أخلاقيًا وحضاريًا؛ فالقضية ليست إحصاءً لأرقام القتلى، بل لمصير البقية التي ستتفاعل عبر صور الإبادة المتبادلة، لذلك؛ لا تُفرّق الأنثروبولوجيا بين الذبائح الحيوانية والذبائح البشرية في سياق دراسة العنف المقدس “رينيه جيرار”، فكلاهما، ضمن وضعية التضحية بالأضعف، يُؤديان الوظيفة ذاتها… تبجيل العنف. غير أنه باتَ -اليوم- عنفًا مُدنَّسًا، والأزمة الذبائحية التي تمر بها سورية لا تُقارن بالأزمة الذبائحية الموجودة في التراجيديا، إلا في كونهما ينتزعان قيم المجتمع، ويدفعان به إلى أقصى حالات الهتك والسفك. لن يتطهر أحد عبر هذه الذبائح، بل سيختفي الآدمي عبر الطقوس الهمجية التي تنحدر به إلى القتل الثأري المتبادل. عبر الفأس ذاتها التي اقتلعت مجتمعات بدائية عبر صراعات ثأرية دموية اقتلعتها من الحضارة، لذلك؛ قلت بأن ما يحدث ليس تحررًا، وإنما تدميرًا لنواة التحرر السياسي. وما ذكرته في سياقٍ آخر، حول موقف كانط من الثورة، وتحديده لمعنى الثورة في وجهة نظر المحايدين غير المشاركين فيها، كرره ماركوز في “العقل والثورة” حول موقف “هيغل” الذي لم يؤيد أبدًا ثورة تقلل من الحرية الفردية، وتحشر البشر في مجموعات قطيعية مسحورة ومستسلمة للموت في سبيل العقيدة الثأرية، لذلك؛ لا يمكننا أن نربط مبادئ الحرية بأفعال تقتصر ماهيتها على القتل المحض.
كان ممكنًا أن تُزهِر -في بلدتي: كفر نبل وعامودا- نواة حقيقية لإنتاج بنى ثورية، تحدث تغييرًا تدريجيًا في بنية المجتمع السياسي في سورية، إلا أنها أُرجِئتْ؛ لتُفسِح للمقاولات الإقليمية أن تستثمر في الجسد السوري دمارًا، فالحل العسكري لإسقاط الطاغية، يمكن في التقنية الدولية فحسب، والتي في غيابها ستنتهك الأجندة الإقليمية جسدنا وتصفيه إلى أقصى حالات التصفية.
سيعود السوري في مقبل الأيام ميتًا، آليًا، مُسخرًا لتمرير غيره في جسده، سيعود ليؤكد أن هَويته هي أجنبيته؛ إننا -بذلك- نفقد بلدنا بطريقة أعمق. والتضحية التي نقدمها في سبيل تهذيب العنف، تؤججه، تعميه وتعممه، لذلك؛ نحن نضحي بأنفسنا في سبيل الإجلال الخاص بالعنف. فالأعنف الآن هو القائد، والأعنف بين الأكراد يسيطر على الأكراد، والأعنف بين العرب يسيطر على العرب، والأعنف وحده يقبل الذبائح السورية، ويفسد المبدأ الذي من خلاله يتأنسن المجتمع… العقل القادر على إبدال العنف باللاعنف، العقل القادر على التأمل لتنمية الخيال المجتمعي المشرف على تنويع الهويات وتهذيب الاختلافات فيما بين الحضارات، عبر العمارة المدمرة يمكننا تحديد المجال الذي انتهى إليه التوحش. بيوت المدنين ليست بيوتًا، المآذن ليست في مقام عال؛ لتتفاداها القذائف، تحول المكان كله إلى مجال ترابي للتخندق فيه ضد الجهة الأخرى، واختفت من الشوارع معالمها البشرية، مثلما اختفى عن الصراع مضمونه الحقوقي.
يوم في إثر يوم، تقلّ أكثر إمكانية العودة والتأسيس على الأنقاض من خلال الخراب، فالتجربة الألمانية التي تُقترح -بسذاجة- للاحتذاء بها في مرحلتها ما بعد الحرب العالمية الثانية، ليست أملًا، بل وَهم. كونها (ألمانيا) لم تحترب حتى التصفية، بل كانت تُقاتل الأجنبي الخاص بها؛ لتستعيد الكرامة التي خسرتها في معاهدة فرساي، والتي وصلت باقتصادها إلى الحضيض، فظهرت النزعة العقائدية التطهيرية لهتلر الذي تمسّك بخطاب النقاء العرقي وتفوقه، مستلهمًا كأي متحدث شمولي، العجز الاجتماعي المُقترن بالعنف، للتعويض عن الخسارة عبر الهدم، تدمير الآخر لاستعادة ريادته؛ هذا التعصب المختلط بهوس العسكرة الذي لحق بأوروبا، كان، بالنسبة إلى ألمانيا بالدرجة الأولى، مسبوقًا بكم هائل من فكر الدولة. كمٌّ ثرّ من فلسفة الحق وطبيعة المؤسسات الديمقراطية، إلى جانب من الغنى الاقتصادي حِرَفيًا وعلميًا. لم تكن ألمانيا تحارب بعضها، كانت واهنة لدرجة التفتت، فاستجمعت ذاتها؛ لتحارب الأجنبي الخاص بها، لكن عبر توجه شمولي مدمر لها كدولة.
بينما في سورية، فإننا نشرخ الهوية الممكنة بالأجنبيات الدموية، ونحوّل بعضنا إلى أجانب بالنسبة إلى بعض، وبأقسى الفؤوس الوحشية التي تسلحت بها المعارضة والبعث الذي يُعدّ التوحش جوهره، كان لا بدّ للخيار التدميري أن يتوقف، رفقًا بحياة البشر في سورية، ولم تعد هناك عائلات قادرة على النوم بسلام في جوار بعضها، وترسّخ الشك في نظرتهم لبعضهم بعضًا، وكأنهم لم يتبادلوا يومًا السلام. والذُل المهول الذي يلاقيه السوري على أرض الملاجئ، وغير الملاجئ، تحطمه روحيًا في العمق، والذُل المتعلق باستغلال اليد العاملة وأسعار البيوت المرتفعة والتهجير القسري والسادي الذي يقوم به بعضهم؛ للتهكم وللاستمتاع بتشرّد السوري هنا وهناك، بأمتعته الرخيصة وأطفاله المنمكشين عليه ذعرًا من معاملة المضيف الاستغلالي لهم. في الدول المجاورة تسفك كرامة السوري بكرده وعربه، وعلى يد الأكراد والعرب، لم يجد الكردي السوري عند أخيه الكردي المجاور لحدوده عونًا له، كما لم يجد العربي السوري عند أخيه العربي عونًا يليق بهذه الأخوة الزائفة، كلهم في نظرة الجوار لهم مجرد سوريين، ليسوا أكرادًا ولا عربًا، بل هم مجرد سوريين آخرين بالنسبة إلى آخرين.
الجغرافيا التي قسمناها فيما بيننا بالدم داخليًا، تلمنُّا في الخارج بالذل. ماذا يعني ذلك من وجهة نظر الفكر الذبائحي؟ فالأزمة الذبائحية تحدث حينما تختفي الفروقات والاختلافات، حينما يحاول فكر عقائدي كالبعث أو كالنازية، أن يحشر الكل قسرًا في حظيرة الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة في التراتيل البعثية الحمقاء، حينذاك تنزع الاختلافات لإثبات فرادتها وغناها الهوياتي، فتقدم الجماعات القرابين لبعضها بعضًا، عبر التضحية بالذبيحة الأقل مكانة فيها، الذبيحة التي لا تثير فيما بينها نعرات عرقية ثأرية. درءًا للعنف وإرواءً له، فيستعيد المجتمع توازنه العنفي عبر قرابينه الخاصة، لكن حينما ينحرف العنف عن الإبدال الذبائحي، يختفي الفرق بين المضحي والمضحى به، ويبدأ نظام التدمير الذاتي بتعميم العنف الأعمى الذي قضى على كثير من القبائل البدائية. نعم. انحرف العنف في سورية وكثُرَ جمهوره الذي ينتظر أن تختفي عبر العنف سورية المحتربة، هذا الاحتراب الذي تخطى الحدود المفترضة لتخيل التوحش، وصار مبتدعًا خاصًا، مؤسسًا فريدًا لأنماط القتل المتوحشة التي ستتسرب إلى جسد البقية المبتلية ببقائها، وريثة لهذا الكم الهائل من الفتك الأرعن الذي بدأ بتغيير ملامحنا عبر تشويه دلالة الأسماء التي صارت تستخدم للإشارة إلى السوري.
يحلل كلود ليفي شتراوس، في مؤلفه “الفكر البري”، العلاقة الغامضة المتمفصلة بين اسم العلم وبين الأسماء المأتمية، والتي هي وبخلاف الكنية، تحديد انقلابي للذات عبر الغياب، عبر موت الشخص الذي نرتبط به اسميًا ولا نتحدد إلا به، كأن نقول: فلان أخ لفلان الميت، أو ابن عم فلان الميت، وهكذا تم إحصاء 26 اسمًا مأتميًا يرتبط به الإنسان في حياته. لكنها ليست إحالة للنوع على المجموعة (ارتباطنا بأسلافنا)، بل علاقة بين اسميّ علم، أحدهما بلا ذات، ينافس الاسم المأتمي اسم العائلة في تحديد هوية الذات المرتبطة بالاسم المأتمي، وأحيانًا يختفي اسم العلم، واسم العائلة (الكنية) من هوية الشخص المرتبط بالاسم المأتمي، فيبقى محددًا عبر الغياب.
إن حايثنا هذه الوضعية مع التحريم الذي تضعه بعض القبائل على ذكر اسم الميت، لثلاث أو أربع سنوات، إكراما لمكانته، فإننا سننتهي إلى لغة إشارية، تزيد من حضور الغائب في هويتنا، تركيبة التحريم والتحديد الهوياتي عبر اسم الميت، تمنح سورية المنتهكة لغتها الراهنة، فالكل محدد عبر الموتى القائمين في تعريف الآخرين لنا، سننادي بعضنا بأسمائهم.
فقد تحولت سورية إلى نشيد جنائزي، والرعونة التي تدفع الفؤوس إلى الفؤوس، سترثنا شكلها الثأري؛ ليدخل القتل في السلالة، ويتحول الاسم المأتمي إلى كنية للفرد، أينما توجهنا، أكرادًا وعربًا، نفقد تحديدنا الاثني، كأكراد وكعرب، على حساب التشخص الجغرافي السوري. أخوتنا الاثنيين (الأكراد والعرب) لا ينطقون أسماءنا الإثنية حينما يصفوننا، بل يضعون كنية مأتمية -عذرا شتراوس- لجميعنا، بتنوعنا الهوياتي؛ لتحديدنا في اسم السوري، وأي سوري! سوري محمل بالموتى. ولمضاعفة الدلالة الإذلالية في هذا التحديد، يرفقون الاسم بنبرة خاصة، تجعلنا كذوات قائمة بالفعل، وكأننا ذوات بلا اسم.
اعتقدت ُبأن لكل شيء حضيضه الخاص، مستوى ما يتوقف فيه الشيء عن النمو، يسمى حضيض الشيء، لكن بات الحضيض فضاءً، وصارت الأشياء تعوم فيه، لذلك؛ صرت مجرد منتظر، مثلي مثل الغبار المتكوم على عتبة ما، ريثما تقذفه الرياح في اتجاهاتها، فكل شيء ممكن، الصواب والخطأ، الشر والخير.