أدب وفنون

من يغسل الجثة من فائض الموت

ليس ذاك العري الذي نثر على جسد الحبيبة قبضة من حبق، فأعاد إلى تاريخ الحب بدوة الإشراق، ولا هو تموز العائد من مأدبة الآلهة، ليبتكر لحظة انبعاث وخلق لحظة فينوس الخارجة الآن من البحر. ليس ذاك الشفيف الخفيف، يعلو إذ يهبط أرض الخصب، ويصمت إذ ينطق في أول الدهشة، يفتتح سماء خضراء للرغبة ويأخذ نحو أبد الغبطة يد الحياة؛ بل هو الهتك إذ يفتح السجّن بابه للمأساة لتكمل طقوس التحولات، تصير بعدها حكاية وتاريخًا.

 

ركلة في ظهر العالم تدفعه نحو العدم، لحظة يحدها مجهولان: الجنون والموت. لحظة قصية للفزع وسعير الشهوات لهتك حجب الغامض، بنظر السجّان تعرى الحرية إذ يعرى السجين ويعرى الكبرياء، ماذا يريد السجّان؟ أن يتأول في عري السجين معنى الغامض (الحرية) الواضح (الجسد العاري)، ثم، بعد قليل، ينقضّ على الغامض والواضح بخنجر السلطة الصدئ. يتصاعد أتون الملحمة، يفصح عن وجه المأساة العظيم، مأزق الوجود محمول على اللحظة بين الموت والولادة، العدم والوجود، الانبعاث والاندثار، البداية والنهاية.

 

أي قانون أو صدفة أو احتمال أو عبث سيجر قاطرة المصير، الآن، وقد رفع الستار، تتحرك الذرة الكونية خارج المدار، نحو فضاء المأساة، ثمة طريقان: واحد يفضي نحو الهاوية والآخر يتسلق حيطان البطولة، ولأسيخليوس أن يتمّ بناء التراجيديا من مخبئه الإغريقي. تراه الآن يكتب إلى صديقه بيلاسفوس: نعم، أحتاج الآن إلى فكر عميق، أحتاج أن تغوص نظرتي إلى الأعماق، كما الغطاس إذ يغوص في الهاوية يحصي شعاب مرجانها.

 

تقول الأسطورة: أن أخيل قد بعث من الجحيم خطابًا إلى البشر عن خيارات الوجود، فإما حياة مديدة غفلًا في مزرعة، أو حياة محارب وجيزة واسم يخاصر الخلود. الزنازين- أقبية الافتراس- الجدران- الأبواب ذات الصرير المفضي إلى الجحيم- الوفرة في وسائل الموت- السقف المعد للشبح- جوقة من الذئاب (السجانين)- الموسيقى الجنائزية في عويل المسجونين- صورة الطوطم فوق رأس المحقق- المؤثرات الأخرى القادمة من سحيق الفزع- الأيروس المكبوت… ها قد اكتمل فضاء التراجيديا أيها السجين، كما يشتهي يوربيدس أن يحتفي بالتفاصيل. ديونيزيوس المحنط على رأس المحقق، أشار إلى المونادات (الوصيفات) أن يبدأن الشعائر، حين تعلو الطقوس، تأخذ الوصيفات (السجانين) إلى أعالي الجنون والفتك. ومما تقوله الأسطورة -أيضًا- إن (أغاثيه) أم ملك طيبة، في غمرة “الوجد”، أصابها ديونيزيوس بالجنون؛ فعرت ولدها وقتلته، وبعد ذلك نثرت الأشلاء.

 

يصنع الألم الأسطورة وتصنعه، في غيابة الألم يغيب السجين العاري، (الوليد القادم الآن إلى الحياة يغيب في النوم إذ فارق دفء الرحم)، لا يود السجين صحوة من الألم، الرحم، أو خروجًا إلى برد العالم وجوع ذئابه من جديد. الغياب أمل العودة إلى أول الدفء. (وحده الألم يوقف الألم). ماذا يريد السجّان من عري السجين؟ كسر شوكة الكبرياء؟ تبدأ الهزيمة من الجسد يقول، وتذوي روحه في العتمة، هذا الجسد الذي حمل الفأس وهدم الصنم. يودّ السجان لو صار ذلك الجسد حبالًا تربط الطوطم على حائط الأبد؛ الجسد المنزوع الكبرياء يصير فجيعة وتهبط الروح إلى العالم السفلي. هكذا تتم العناصر تفاعلها في كيمياء العويل، ويعلن الطوطم الرابض على رأس المحقق نهاية العرض. لكنّ أسيخليوس يواصل بناءه الملحمي، ويلتقط التراجيديُّ العاري اللحظةَ الفارقة لإحداث التحول: فإما الهاوية أو صعود الألم إلى القمة. تمدّ اللحظة في الزمن حبال الملحمة، تفاضل بين الموت والحياة، لعلك تواصل أيها الملحمي الصراع بعرائك إلى المنتهى، لتعلو معك المأساة، وإلا، يقول أسخيليوس: فلا أياد مبللة بماء القلب، تغسل الجثة من فائض الموت.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق