أصبح حديث أن الطغاة يأتون بالغزاة حديثًا سمجًا، وهناك من يعيد اكتشاف مالك بن نبي عن قابلية شعوبنا للاستعمار، وبالتالي؛ فإن وجود أنظمة شمولية وحربية، وفصائل مسلحة غير قادرة على الحسم العسكري، هو واقع يفترض تدخلًا استعماريًا لإيقاف المجزرة. هذا التحليل الفاشل ليس بجديد، وقد نظّر له كُتاب ليبراليون كثر، وما زالوا يُكررونه، وكأن الأمر لم يحصل؛ فالتدخل في العراق هو سبب دمار العراق، وليس سياسات صدام حسين فحسب، وكذلك في أفغانستان. وماذا كانت النتيجة هنا، أين الديمقراطية؟ أين المواطنة؟ أين ثمار اللبرلة؟ ونضيف هنا إن تركيب أنظمة طائفية وقبلية وإثنية في كل من أفغانستان والعراق، ومن قبل الأميركيين، يجعل الكلام عن دعوة الغزاة لحل المشكلات في سورية، وإيقاف المجزرة يصبح ساذجًا وليس سمجًا فحسب.
هل أميركا وبقية الدول الإمبريالية غائبة عن المشهد السوري، أليست تتدخل وفقًا لمصالحها وبما يدمر سورية، وتسمح للنظام بالاستمرار. بعيدًا عن ذلك، نقول: إن المعارضة لم تستطع إيجاد تيار وطني عريض في كل المدن، ومن كل التيارات السياسة، وتشكيل قيادة للثورة، ولم تعمل وفق رؤية استراتيجية وبرامج محددة؛ وقد كانت أداة لصالح الدول الإقليمية والإمبريالية، وهذا ما أعاق تطور الحركة الثورية، ومنع الثورة ذاتها من إظهار قيادة مستقلة. بدوره النظام أسس لذلك، عبر قتل واعتقال وتهجير أغلبية الثوار الأوائل، والذين كانوا على وعي عالٍ بمجمل مشكلات سورية، وأكملت المعارضة ذلك بالسماح بالأسلمة والعسكرة الفوضوية؛ ومع تطور الصراع أصبح الخارج متحكمًا بكل مجريات هذا الصراع.
بعيدًا عن هذا أيضًا، وعلى الرغم من وجود الدعم الخارجي للعاملين في الشأن الإنساني، فإن بعض التجارب الثقافية أو السياسية تقول بأن هناك ممكن آخر مختلف، الممكن الوطني بالتحديد؛ وهذه الظواهر هي ما يجب العمل من أجلها. خمس سنوات من الثورة تحولت سورية -خلالها- إلى لعبة إقليمية ودولية، وافتقد السوريون المشروع الخاص بهم. وعلى ضوء اجتماعات لوزان الأخيرة، والتي تُخرج النظام والمعارضة والدول الأوربية الأساسية كفرنسا وألمانيا وبريطانيا منها؛ لأسباب متعلقة بالفيتو الروسي عليها، نقول: إن هذا يجب أن يدفع بالسوريين إلى الفهم الدقيق للوضع الدولي والإقليمي، والتخلص من عقلية الاعتماد على الغزاة؛ لأن الغزاة -بالفعل- موجودون، وهم المتحكمون بالوضع الداخلي؛ فكم مرة أنقذت إيران وروسيا النظام، وكم مرة مُنعت الصواريخ المضادة للطيران من الوصول، عبر الضغط الأميركي، وكم مرة أوقفت المعارك بسبب ذلك. أبعد كل هذا يمكن لبعضهم أن يقول: أن لا دورًا دوليًا وإقليميًا فاعلًا في سورية.
بعد ما أوضحناه، المشروع الوحيد الذي يسمح بتجاوز المشكلات المعقدة في سورية هو مشروع وطني، وينطلق من أن سورية أصبحت محتلة بالكامل، ولعبة إقليمية، وهناك جيوش دولية فيها، وهناك انقسامات طائفية وقومية تزداد تجذرًا، وهناك نظام ومعارضة ليسا معنيين بمستقبل الشعب، ويعملان وكلاء للخارج. هذا الوضع هو ما يؤكد ضرورة تشكيل رؤية وطنية، يكون عمادها أنّ تتشكل دولة سورية مستندة إلى المواطنة. التلكؤ بخصوص المواطنة كان كارثيًا، وسمح للقوى الطائفية بطرح فكرة “الدولة المدنية”، وقد تبيّن طوال خمس سنوات أنها صيغة دينية، وضد كافة التيارات الليبرالية والوطنية، ولعبت دورًا في تطييف الكثير الكثير من توجهات الثورة؛ هذا يعني أن هذا النقاش يجب أن يُحسم لصالح دولة غير طائفية، وتمثل السوريين شعبًا وليس طوائفَ، وكذلك لصالح مشروع اقتصادي صناعي وزراعي وطني، وفي هذا يجب رفض كل مشروعات إعادة الإعمار، والتي تنطلق من تحقيق مصالح الخارج، ومن مشروعات ذات مردود عال وبسرعة. سورية الآن مدمرة، ومعظم سكانها مهجّر في الداخل والخارج، وتفتقر إلى بنية تحتية أساسية. هذا الوضع يعني أن سورية لم يعد ممكنًا دراسة وضعها من زاوية نظام وثورة، بل من زاوية أنها أصبحت مدمرة، ويجب النهوض بها، بما يحقق مصالح الأكثرية التي تعرضت للدمار والتهجير والقتل، وكذلك للمجموعات الأكثر فقرًا؛ ونقصد هنا أنه لا يمكن النهوض بمشروع لصالح ملايين السوريين إن لم يكن وطنيًا، بالمعنى الاقتصادي والسياسي، ولهذا تكلمنا عن قضيتي المواطنة والاقتصاد الصناعي والزراعي.
أن تكون سورية بحالة احتلال، وهو حالها الراهن، وأن نتكلم عن مشروع وطني للمستقبل، أمران يحملان تناقضًا ما؛ فالمرحلة تستدعي التخلص من الاحتلال، ومن الأدوات الداخلية السورية، أي النظام والمعارضة، وهذا صحيح، ولكن هذه المهمة لا يمكن تحقيقها دون رؤية تتجاوز التأكيد الليبرالي المستمر على أن المسألة في سورية تُختصر بمسألة المواطنة والنظام الديمقراطي؛ فهذا -لا شك- شق أساسي في طبيعة النظام السياسي المستقبلي، ويفترض أن يكون محط إجماع وطني عام، ويُفترض، وبعد تجربتي تونس والمغرب، وانتهاج هاتين الدولتين نهجًا وطنيًا ومواطنيًا، أن يتعلموا الدرس جيدًا، وكذلك بعد الكوارث الإسلاموية في العراق وليبيا واليمن وسورية.
في سورية كانت هناك ثورة شعبية، ولها مطالب في التحرر الكامل من كل القيود، وبناء دولة الكل الاجتماعي. أما الآن فهناك احتلالات متعددة، ومهما ادعت دعمها للمعارضة؛ فهذا تم -ويتم- من أجل تأمين مصالحها في أي طبخة سياسية مستقبلية، وليس لتحقيق مصالح الثورة أو السوريين عامة؛ الاحتلالات كما أهداف الثورة تستدعي من السوريين التأكيد على ضرورة أن تكون سورية المستقبلية مستقلة ومتحررة من الاستبداد والطائفية، والنهوض بها مواطنيًا واقتصاديًا.
إذن؛ الطغاة أتوا بالغزاة، ولكن سورية لم تكن بوضعية القابلية للاستعمار، بل كانت بوضعية الثورة، وقد تم إحداث مجزرة وتدمير واحتلال؛ للتخلص من الثورة، وهذا ما يستدعي لفظ كل سماجة وسذاجة تكرر أن لا مفر للسوريين من المزيد من التدخل الاستعماري. لن أُثقل النص بأن أميركا تورط روسيا في سورية، ولكن -أيضًا- تعطيها سورية كهدية؛ وفي ظل وضع كهذا، يصبح الكلام عن تدخل أميركي -بالتحديد- كلامًا عبثيًا، وبلا أي جدوى، ويشوش على المشروع الوطني، وبالتالي؛ وعلى الرغم من ضعف المشروع الوطني وقواه، وعلى الرغم من الشعور بالهزيمة وتسليم البلاد للخارج، فإن أي عمل سياسي يجب أن يعود لما ذكرناه أعلاه، وأن ينحت -فكريًا وسياسيًا- في هذه الرؤية بالتحديد، وليس انطلاقًا من الشعور بالهزيمة والإحباط والعجز، والتي كانت وبالًا وما زالت كذلك.